الحب والذئاب

كانت ليلة تحالفت فيها جيوش الظلام , مع جحافل سيول المطر على الأطباق على البلد .. وفشلت كل محاولات الأسرجة ,أن تطل من سجنها المكبوت , فتقوقعت في داخل بيوتها .
سلم أهل البلد أنفسهم, لنوم يحميهم من هجمات هذه الليلة المخيفة .. وتركوا لها الساحة , لترقص رقصاتها المجنونة, على “حل شعرها ” الأسود .
” سمير..! يهود مستوطنون.. يحومون حول بيتنا .!.”
وأُغلق الخط ..!
هي ..رنا .. صوتها .!
ولكن من أين لها الهاتف النقال, وقد كان هو السبب في مصادرته منها ..!؟
“ولكن لماذا توجهت إليه بالذات ..!؟” هاجمه سؤال تسلل من بين تشابك حوامات الغليان , التي بدأت تتصاعد في داخله , وهو ” يسحسل” رجليه , بمساعدة يده .
” رجلتان ملعونتان .. أنا وأنتما والزمن طويل ..!” .. زجر رجليه الضعيفتين اللتين مالتا للإِستسلام للوهن والضعف ..
مسك بيده اليمنى متكأَ العربة البعيد عنه ,التي كانت جاثمة بجانب السرير , متخذاً منها مرتكزاً ضغط عليه بكل قوته , ورمى بنفسه ألى داخلها .
ضغط على زر تشغيلها ,وتقدم نحو الباب , فتحه ..و “رمى ” بنفسه تحت رحمة ضربات العاصفة الهوجاء, و”عميات” الظلام البهيم .
حاول أن يقتل حبه لرنا في مهده .. أن يدوسه تحت عجلات عربة الأعاقة ..التي تمنعه من الصعود إليها .. ولكنه شعر أن إعاقته نفسها ,تعجزه عن تنفيذ هذا الأغتيال .!
سلّم الطريق لعربته , تاركاً لها مهمة البحث عن مسارها, بين كتل الوحل والحجارة ,التي رمتها السيول في الشارع ,و”للخدران” في رأسه , الذي سببته موجات الأفكار, التي تدقه بعنف مجنون .
بكى بكاء مراً ,عندما طافوا على طلاب دفعته الجامعية , يدعونهم للإشتراك في المظاهرة ,للوقوف أمام جيش الأحتلال من أجل منعه , من تنفيذ مصادرة أرض البلد.
رنا الوحيدة التي أقتربت منه وقالت له : ” تستطيع ان تكون معنا ..! ” وإلى اليوم لم يجرأ على سؤالها –
إن كانت تعني بكلمة ” تستطيع ” أنه مسموح له الأشتراك بالمظاهرة ..أم أنه – حسب رأيها – يملك القوة على ذلك .!
” ربما شفقة عليه .!! ” كان يطرد هذه الجملة اللعينة , عندم تقترب منه .
ومشى يحث عجلات عربته, أن تجد لها طريقاً تزيد فيها سرعتها .. لأول مرة يحاول أن يحولها إلى طائرة تطير به الى هناك الى بيت رنا..!
لقد توحد مع المطر .. اصبح قطعة منه .. وابتلعه الظلمات الحالكة الى جوفها, فكان لا يرى شيئا أمامه , إلا عندما تمزق صفحاته ,سكاكين الرعد التي يغرسها فيها, فينتج عنها جروح ,تتدفق منها ,براكين من دماء بيضاء.
كان بيت رنا لا يبعد عن بيته ,سوى بضع مئات من الأمتار .. قطعها مئات المرات .. كانت عربته تقطعها بزمن لا يزيد عن خمس دقائق ..
ولكنه في هذه المرة, المسافة بينه وبين بيتها ,تطول .. وتطول حتى شعر أنها تساوي طول الدهر..!
وصل البيت .. أصبح لا يبعد عنه سوى أمتار .. بصعوبة استطاعت عيناه ,أن تفصل شكل البيت عن الظلام الذي يطغى عليه , ولكن الأنوار التي صنتعها تفجرات الرعد ,كشفت عن أشباح سوداء تتحرك حول
البيت , اقترب أكثر منهم , فسمع أصوات تتهامس بلغة غريبة , تأكد أنها عبرية .
من النور الضئيل الذي كان يهب ثم ينطفئ , عرف أنهم يحاولون إشعال نارفي شيئ في يدهم لا يستطيع أن يتبينه , وأن هذه النار معدة لرميها داخل البيت لأحراقه.
لا بد من العمل ..! لابد من إنقاذ البيت وسكانه ..قبل فوات الأوان ..!
أخذ ” يدَلِّي” يده من العربة الى الشارع ,محاولاً التقاط حجارة من الطريق ,كي يرميها بإتجاههم ,لعله يخيفهم فيهربون , فانزلقت العربة على جانبها ,ورمته يتخبط في أوحال الطريق .
ترك العربة .. مثلما كان يفعل قبل ان يحصل عليها .. وحبا باتجاه البيت المجاور ..
مشى يعارك الوحل والحجارة والسيول الجارية في الشارع , إلى أن وصل الى بابه ..تناول حجراً بيده وأخذ يدق به عليه .
سرق نظرة باتجاه بيت رنا , فصادت عينيه ناراً مشتعلة في داخله ,تظهر من شباك مفتوح..في الطابق الأرضي ,فتيقن أنهم استطاعوا رمي فتيل نار في داخله ,بعد أن فتحوه .
أخذ يدق بقوة أشد ..يدق ويدق , وإذ بنور ينطلق من مصباح فوق الباب , يلحق به صوت :” مين ..!؟”.
” أنا سمير ..إفتح ..! إفتح الباب ..!! إليهود بحرقوا دار جيرانكم ..!” .
في لحظات كان البيت يعج بالجيران , وأهل الحارة , والحارات الأخرى .. “مدججين” بأسلحتهم , هذا يحمل عصى , وذاك يحمل فأساً أو طورية أو حجر ..ولكن المهاجمين هربوا من المكان , بعد أن شعروا بالخطر .
وعندما فتحوا الباب, وجدوا أن النار, لم تطل إلا القليل من محتويات الطابق الأرضي .. وأن رنا وإخوتها ,كانوا ينامون في الطابق العلوي , ولم تصلهم النار .
وحضر أبو رنا وأمها .. لقد كانا يبيتان بجانب سرير إبنهما الصغير في مستشفى المدينة..
فعرف سامي أن رنا كانت وحيدة في البيت , عندما هاجمه المستوطنون ..
فأطلق العنان لعربته .. وهرب من المكان ..هرب من العيون والأفواه التي ” ستهاجمه” بالشكر والمديح ..
هرب من عيني رنا ..!!

يوسف جمّال-عرعرة