أدهشني حسين مهنا
تاريخ النشر: 22/01/14 | 7:56إذا أردت أن تقرأ شعرا أصيلا وراقيا فعليك بالشاعر حسين مهنا. في الواقع ليست المرة الأولى التي أتناول فيها بعضا من شعره، ولعل السبب في ذلك أنه يدهشني دائما بما تخط يده من أوراق مشرقة تجذبك جذبا شائقا، أو تدخلك في حالة من الإصغاء المريح:
"أرى زمني تُصرفه العبيد/ وعيشي في مرارته يزيد/ تقاسمني الهموم كفاف يومي/ وليلي من مواجعه مديد".
إنه يعي همومه عقليا كما نرى، وهذا الوعي العقلي انعكس في تقنية التعبير.
أمّا قوله الآتي في نفس القصيدة فنستشف منه الطبع الكريم يسمو به الى العلياء. يخاطب الشاعر نفسه:
"فشدّي قامتي شدا كريما/ الى العلياء ما كرم الصعود/ كصقر يبتغي التحليق طبعا/ ويهوي والبغاثُ له سجود/ ولو خُيّرتُ في تبديل شكلي/ لكان الصقر أسمى ما أريد".
هذه الأبيات من ديوانه الأخيرة " أخذتني القوافي " توخى في صفحاته القصيدة العمودية عبر بعض البحور: الطويل، البسيط، الكامل، الوافر، المتقارب، الخفيف. والبحر البسيط هو الغالب. ولا يخفى أن هذا البحر من أدرج البحور استعمالا، وقد قال أحدهم "لو شئتُ أن أتكلم شعرا لتكلمت بالبسيط " وهو يعني البحر البسيط.
اللافت في هذه القصائد والبحور ليس أنك لا تجد وزنا مكسورا، أو عيبا من عيوب القافية مثل: الإكفاء والإقواء والإيطاء. بل اللافت أننا لا نعثر على كلمة في غير محلها، أو مفردة نافرة متقلقلة في موضعها.
لننظر ما يقول في البسيط في قصيدة تَنز حبا ووفاء في زمن ندر فيه الوفاء! وهي مكرسة لزوجته الفاضلة منيرة تطفئ شمعتها الستين:
"ما أجمل الحبّ حين الحب ينتصر/ على الشقاء وعصر قلبه حجر/ ويجعل المُرّ حلوا حين يفجؤه/ غدر الزمان وكره فيه يستعر".
إنه يستعين بالحب على غدر الزمان، وعلى هذا العصر الرديئ أخلاقا وقسوة. وهذا لعمري من أفضل ما قرأتُ في هذا المعنى. لكن الأجمل وصفا وغزلا قوله: "ستون مرتْ وحبّي لم يزل نضرا/ قلبي اليباب وأنتِ الغيم والمطر/ وأنتِ شمس طوال العمر مشرقة/ بدون شمس يجف العشب والزهر".
من المسلم به أن البيئة الجغرافية لها التأثير البارز على قلم الشاعر وأينما وجد، حتى الصحراء القاحلة كانت ملهمة شعراء الجاهلية. فما بالك ببيئة جغرافية كالجليل آية في السحر والجمال، من جبال خضر وينابيع عذبة ومناخ معتدل. حسين مهنا يعشق بيئته هذه الى حد الإفتتان:
"صَلّى الفؤاد على الجليل وكبّرا/ وجثا يهلل للجمال محيّرا/ هذا الجليل بحسنه وإبائه/ فتن البخيل من الغمام فأمطرا/ فصحا الخزام معانقا نسم الرّبى/ كي يملأ الدنيا أريجا مسكرا وشقائق النعمان تحكي للورى/ خبر الشهيد وقد تخلد أحمرا/ والنرجس الفتان يقتات القلوب/ ويزدهي بين العيون مفاخرا/ والطير من خضر الجناح وزرقه/ يحيي الحدائق منشدا ومصفرا".
واضح من النَص ان الشاعر لا ينظر الى الأشياء بأفكار مسبقة، بل يرى في الطبيعة دلالة متعالية، يحس بالأشياء ويراها واضحة، فينطلق في تصويره من هذه النقاط. وهذا أفضل تصوير في الشعر. ولا غرابة أن هذه الأبيات تذكرني بالبحتري في وصفه المدهش للربيع:
"أتاكَ الربيع الطلق يختال ضاحكا- من الحسن حتى كاد أن يتكلما".
وإن كانت البيئة الجغرافية قد أغرت حسين مهنا الى حد التماهي معها، فإن للبيئة الحياتية، قريته البقيعة، الأثر الأكبر في قصيدته "كتبتُ وما كتبتُ" والتي تئج روعة:
"بقيعة يا عروس الشعر عندي/ ودرة تاج مملكة الجليل/ أخاطب فيكِ تاريخا جميلا/ وأرنو نحو حاضركِ الجميل/ فيبهرني التسامح بين أهل/ توارثه نبيل عن نبيل/ كأن الحبّ أمرع في رُباها/ وكان الحبّ صنو المستحيل/ ترى الأجراس تقرع كل صبح/ وذوي الخلوات تصخب بالهديل".
لو اكتفينا بهذه الأبيات وحدها من القصيدة ووضعناها على مقياس نظرية الجمال عند (شارل لالو) كمثال، لوجدنا أنها تفيض بالجمالية، ويكفي أن نذكر واجهة واحدة من هذه الجمالية، وهي أنها، أي القصيدة، تفرض نفسها بصورة تلقائية في مداعبة شعورنا الانفعالي وبطريقة تثير فينا المتعة والإعجاب.
وأن اقف قليلا عند قصيدته الموسومة "قد تاهت الروح" فذلك أنها أخذتني الى ما آلت اليه أمتنا العربية من أوضاع مأساوية محزنة! وفي مثل هذه الظروف يجيئ دور الأديب الحق، لا يمكنه أن يقف بمعزل عن الاحداث الهامة، يحاول على الاقل ان يبتكر او يجد حلا منطقيا للمشكلات المعقدة، قد ينجح وقد لا ينجح، لكنه قادر على تكوين هذا السياق. وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين مثل تورنس، وجيلفورد: التفكير الإبداعي المنتج، أو مهارات التفكير الإبداعي.
الحل عند حسين مهنا هو ثورة الفكر والتي أثبتت نجاعتها على مر التاريخ. يحض الأمّة الى النهوض وانجاز هذه المهمة:
"يا أمّة الصبر فيكِ الصبر جامعنا/ يكفي انتظارا وثوري ثورة القلم/ ما ظل في الأرض إلا من مشى قدما/ وضل من سار خلفا سير منهزم".
البيتان هما قاعدة القصيدة، خاتمتها، وهما من القوة والفصاحة مما يتيح لهما مكانة جيدة على خارطة الشعر المعاصر.