عندما يكون الصيت قويا وتكون المفاجأة
تاريخ النشر: 17/01/17 | 2:08كثيرًا ما نسمع بقوة هذا أو بعلم ذاك، بكرم فلان أو جرأة علان، فإذا التقينا الشخص الذي اشتُهر، فقد نجد بيننا من لا يعجب به سواء بالشكل أم بالطول، وقد يهزأ منه، ومنا الأقلاء من يتقبلون الرجل كما هو، وبعضنا يتوسط في الأمر، ولا يختار سبيل المبالغة، فيقول: “حسّبنا الباشا باشا وإذا الباشا زلمة، والناس كلهم خير وبركة”.
وردت حكايات في التراث تبين التعجب الذي أبداه الحاكم من شخص تردد اسمه أن له صولة وجولة، فقد ورد في (المستطرف، ص 67) للأبشيهي:
قيل إن سعد بن ضمرة الأسدي لم يزل يُغير على النعمان بن المنذر يستلب أمواله حتى عيل صبره، فبعث إليه يقول: إن لك عندي الف ناقة على أنك تدخل في طاعتي، فوفد عليه، وكان صغير الجثة اقتحمته عينه، و(بدا أنه) يتنقصه، فقال سعد:
مهلا أيها الملك، إن الرجال ليسوا بعظم أجسامهم، وإنما المرء بأصغريه- قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن صال صال بجَنان، ثم أنشأ يقول:
يا أيها الملكُ المرجوُّ نائلُه *** إني لمن معشر شُـمِّ الذُّرا زُهُرِ
فلا تغرنَّكَ الأجسامُ إن لنا *** أحلامَ عادٍ وإن كنا إلى قِصَر
فكم طويلٍ إذا أبصرتَ جثَّته *** تقول هذا غداةَ الروع ذو ظَفَرِ
فإن ألم به أمر فأفظعه *** رأيته خاذلا بالأهل والزُّمَر
وهناك المثل الذي ورد في (مجمع الأمثال) للميداني:
“تَسْمَعُ بالُمَعْيِديِّ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَرَاهُ”- رقم 655.
يضرب المثل لمن خَبَرُه خَيْرٌ من مَرْآه، ودخل الباء على تقدير: تُحَدَّث به خير.
ويروى “لأنْ تَسْمَعَ بالمعيدي خير”، و “أنْ تَسْمَعَ”، ويروى “تسمعَ بالمعيدي لا أن تراه”، والمختار “أن تسمعَ”.
وقد بحث ابن هشام في موضوع نصب المضارع (تسمعَ)، وذلك في (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب)، ص 19- -المطبعة التجارية-:
وقوله: تسمعَ، مضارع ينسبك مع أنَّ مقدرة بالمصدر، وهذا المصدر مبتدأ مخبر عنه بما بعده.
وربما أظهرت فقيل: أن تسمعَ بالمعيدي ويضيف: “والذي حسّن حذف (أن) الأولى ثبوت (أن) الثانية”.
وأما لفظة (المُعَيْديّ) فهي تصغير (المَـعَدّي)، من (مَـعَدّ)، وخففت الدال استثقالاً للتشديد مع ياء التصغير.
أورد الميداني قصة طويلة في حكاية المثل ختمها بالقول:
كان (المنذر بن ماء السماء) يسمع بِشِقَّةَ، ويعجبه ما يبلغه عنه، فلما رآه قال:
تَسْمَعُ بالمُعَيدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه، فأرسلها مثلا.
قال شِقَّـة: أَبَيْتَ اللعن وأسعدك إلهُكَ إن القوم ليْسُوا بِجُزْرٍ (يعني الشاء)، وإنما يعيش الرجلُ بأصْغَرَيْهِ لسانِهِ وقلبه، فأعجب المنذر كلامه، وسره كل ما رأى منه، قال: فسماه ضَمْرة باسم أبيه، فهو ضَمْرة بن ضمرة، وذهب قوله “يعيش الرجل بأصغريه” مثلا.
قائل المثل في هذه الرواية هو المُنذِر بن ماء السماء، ويرى النُّوَيري كذلك أنه المنذر في كتابه (نهاية الأرب في فنون الأدب- في باب ترتيب الأمثال على حروف المعجم)، كما يذكر ذلك ابن خلكان في (وفيات الأعيان)، وقد ذكر أن الشخص المعيدي هو ضَمْرة بن ضمرة.
في المقابل هناك الكثير من المصادر الأخرى تروي أن الحكاية جرت مع النعمان، في (العقد الفريد) لابن عبد ربه و(المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي وغيرهما.
إليك رواية أخرى مماثلة جرت مع النعمان، وبطلها هذه المرة “الصَّقْعَب بن عمرو النهدي من قُضاعة مَعَدّ، وكان يسمع بذكره، فيستعظمه، فلما رآه اقتحمته عينه،
وقاله المنذر أيضًا لضمرة بن ضَمْرة، فقال: إنما المرء بأصغريه”.
(الزمخشري- المستقصى في أمثال العرب، المثل 1598، ص 370.)
والصقعب المذكور هو الذي ضرب به المثل فقيل: “أقتل من صيحة الصقعب”.
زعموا إنّه صاح في بطن أمه، وأنّه صاح بقوم، فهلكوا عن أخرهم.
ذكرت رواية النعمان والصقعب في كتاب جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج8، ص 365)
تمثل عبد الملك بن مروان المثل لما رأى كُثيـِّر عَزّة، فقد دَخَل كُثيِّر علَى عبد الملك بن مروان في أوَّل خلافتِهِ، فقال: أنت كُثَيِّر؟ فقال: نعم؛ فاقتحَمَهُ، وقالَ: تَسْمَع بالمعَيْدِيِّ لا أنْ تراه.
فقال: يا أميرَ المؤمنينَ، كُلُّ إنسانٍ عند محلِّهِ رَحْبُ الفناء، شامِخُ البناءِ، عالي السَّناءِ، وأنشد يقولُ:
ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور
إلخ
(القالي: الأمالي، ج1، ص 46 – طباعة دار الحكمة، ومن الطريف أنني لم أجد الأبيات أو الرواية لا في ديوان ابن كثير*، ولا في الأغاني).
…
ذكر ابن خَلِّكان أنَّ الحريري – صاحب المقامات- جاءه إنسان يزوره، ويأخذ عنه شيئًـا، وكان الحريري دميم الخلقة جدًّا. فلما رآه الرجل استزرى خلقته، ففهم الحريري ذلك.
فلما طلب الرجل إنَّ يملي عليه، قال له اكتب:
مَا أَنْتَ أَوَّلُ سَارٍ غَرَّهُ قَمَرٌ *** وَرَائِدٍ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَةُ الدِّمَنِ
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ غَيْرِي إِنَّنِي رَجُلٌ *** مِثْلُ الْمُعَيْدِيِّ فَاسْمَعْ بِي وَلَا تَرَنِي
(وفَيات الأعيان، ج4، ص 66- مادة الحريري صاحب المقامات)
..
تمثلتْ بالمثل كذلك أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وإليك ما أورده ابن كَثِـير في (البداية والنهاية- أحدات سنة ثمانٍ وخمسين):
.. “فَرَجَعَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَلَحِقَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَ عِنْدَهُ أُخْتَهُ أُمَّ الْحَكَمِ- وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي طَرَدَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ مِصْر .
فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: بَخٍ بَخٍ! هَذَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ.
فَقَالَتْ أُمُّ الْحَكَمِ: لَا مَرْحَبًا بِهِ! تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ: عَلَى رِسْلِكِ يَا أُمَّ الْحَكَمِ!
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتِ فَمَا أُكْرِمْتِ، وَوَلَدْتِ فَمَا أَنْجَبْتِ، أَرَدْتِ أَنْ يَلِيَ ابْنُكِ الْفَاسِقُ عَلَيْنَا، فَيَسِيرَ فِينَا كَمَا سَارَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُرِيَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَضَرَبْنَاهُ ضَرْبًا يُطَأْطِئُ مِنْهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْجَالِس .
فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَة فَقَالَ: كُفِّي!
…
أخلص إلى القول إن علينا ألا نتعجل في الأحكام، أو كما قال كُـثَيّر.
* ملاحظة:
هناك من ينسب أبيات كثيِّـر للعباس بن مِرْداس.
ب.فاروق مواسي