إبتسامات إن لم تُعلِّم..تُعلِّم (2)
تاريخ النشر: 20/01/17 | 19:08موجة الضحك التي عادت لترتفع من جديد، قد زادت من قناعتي بان نادرة المعلم المشاكس، التي كنتُ قد رويتُها في الجزء الاول من هذا المقال، قد نجحتْ في سهرتنا تلك، كما في اجتماع المديرين آنذاك، في اضفاء اجواء مريحة جعلت كلا من عدنان ومازن، يدليان بدلوهما ايضا.
قال عدنان إن الحديث عن النكتة او النادرة التي تزرع على محيّا المستمعين عموما سيما طلاب المدارس، ابتسامةً تبدّد ضجرَهم وتزيدُ من صفاء اذهانهم وتركيزِ انتباههم، يعيدُه هو ايضا، الى دار المعلمين العرب في حيفا، في اواسط الستينات، وبالذات الى حصة ما بعد وجبة الغداء اي تلك الحصة التي كانت تتربع على برنامج الدروس، ما بين الساعة الثانية والنصف وحتى الرابعة. لم يتردد عدنان ان يصف تلك الحصة بانها “ثقيلة دم”، سيما في الايام الحارة ذات الرطوبة النسبية العالية، التي يكتظُّ بها عادةً الشهران الاخيران من السنة الدراسية في حيفا ، ثم قال موجِّها حديثَه اليَّ: “في مثل هذا التوقيت والمناخ الصفيّ، كنتَ تدخلُ الى غرفة صفِنا مرة في الاسبوع، مستهلا الدرس بمُلحَةٍ قد تكون نكتة او نادرةً او طرفة ادبية مناسبة للموقف”.
لقد اثار حديثُ عدنان فضولي، فقاطعتُه قائلا له: ” ألا زلتَ تذكرُ بعضَ تلك المُلَح ؟”. اجاب عدنان على الفور: “بكل تأكيد. إذ كيف لي ان انسى، مثلا، أنك عندما اردتَ ان تعلِّمَنا في إطار اساليب تدريس العلوم، كيفيةَ تعليم مفهوم النوبة القلبية الناجمة عن عدم وصول دمّ الى عضلة القلب رغم كون حجيرات القلب مليئة بالدم، إستعنتَ بطرفة ادبية كانت عبارة عن بيتين من الشعر الغزلي. لا زلتُ اتذكرُ تلك اللحظة وكانها حدثت بالامس القريب. اذكرُ انك ما ان دخلتَ الى غرفة صفنا، وحييتنا كعادتك، حتى رمقتَنا بنظرةٍ فاحصة اوليتَني منها نصيبا، ثم تناولتَ الطبشورة، ودونما مقدماتٍ كتبتَ على اللوح باحرف كبيرةٍ بيتين من الشعر الغزليّ قد غابا الان عن ذاكرتي، ثم طلبت منّا أن نجتهد في معرفة السبب الذي من اجله، كتبتَ هذين البيتين على اللوح، في حصةٍ مخصصةٍ أصلا لأساليب تدريس العلوم”.
توقف عدنان عن الحديث لحظة ليسألني سؤالا قد اصبح بالنسبة لي في مثل هذه المواقف، تقليديا ومتوقعا :”بَعْدَكْ بتتذكر هذا؟”. فاجبتُه على الفور:”لعلك تقصد البيتين التاليين:
واشــدّ ما القاه من ألـم الجــوى قرب الحبيب وما اليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول”.
فاجاب عدنان بانفعال: “نعم هذان هما البيتان بدليل ان البعض منّا قد ظن انكَ اردتَ بهذين البيتين ان تدغدغ عواطفَنا وتداعب مشاعرنا جاعلا من ذلك رافعةً لزيادة يقظتِنا وتركيزِ انتباهنا. في حين ظنّ البعضُ الاخر انك كمرشدٍ مربٍّ لصفِّنا، اردتَ ان تمهّدَ بهما، لحديثٍ تُجريه معنا بشأن عدم التزام البعض منّا بالتعليمات التي فرضها نظامُ الفصل الجندريّ((Gender المطلق الذي كان متبعا آنذاك في دار المعلمين، والقاضي بما يلي: ممنوع اختلاط الطلاب والطالبات، ممنوع الدخول من ذات البوابة الرئيسية، فالبوابة الشمالية الشرقية معدّة لدخول الطلاب امّا البوابة الاخرى اي الشمالية الغربية فهي لدخول وخروج الطالبات فقط. كلٌّ من البوابتين تؤدي الى جناحها الخاص في العمارة المركزية، بما في ذلك غرف الصفوف وبناية القسم الداخلي. الجناح الغربي للطالبات بينما الشرقي للطلاب. “التسلل” ما بين الجناحين ممنوع ، اما من تسوّل له نفسه من الطلاب ان ينفذ الى الجناح الغربي، غير مبالٍ ب”الجُنحة” التي سيرتكبها، فسيصطدم حتما بحائط الفصل الحقيقي الذي كان قائما فعلا ما بين جناحي غرف صفوف الطالبات والطلاب”.
يبدو لي ان حديث عدنان عن الماضي ووصفه الدقيق للاحداث، جعل مازنا ايضا، يستعيدُ بعضَ ذكرياته عن تلك الفترة، فتوجَّه بالحديث الي قائلا: “عندما اردتَ ان تتطرق في إطار اساليب تدريس العلوم، الى مصطلحي “مخلوط” و “مركب”، ولاحظتَ التعبَ البادي علينا، سارعتَ الى إستهلال الحصة بقصةِ خليل اللحّام الذي ولِدَ لإمٍّ وأبٍ كانا قد ترملا بعد زواجٍ اولٍ قصير، وكان لكل منهما ولد واحد من زواجه السابق. كان الاب يذهب صباحا الى عمله، بينما زوجته تهتم بالاولاد الثلاثة بما في ذلك فضّ النزاعات المتوقعة فيما بينهم. كانت تقاريرها اليومية الى زوجها بعد عودته من العمل، إمّا: “ابنك ضرب ابني او ابني ضرب ابنك”، الى ان قالت له يوما: “ابني وابنك ضربوا ابننا” فاصبح خليل اللحام يُعرف باسم خليل المخلوط”.
سكت مازن ريثما توقفت جلبةُ ضحكنا، ثم تابع حديثه موجِّها كلامَه اليّ :” أمّا عندما اردتَ في ذات الوقت في الاسبوع التالي، ان تسلّط الضوء على مصطلح كيمياء عضوية، وعمّا نعني به، رأيتك تبتسم فتوقعتُ سماع طرفةٍ معينة. اذكرُ انك رويتَ لنا قصةَ محاضرٍ جامعيّ إدّعى، مداعبةً، “ان الكيمياء العضوية هي كيمياء اليهود”. توقف مازن عن الكلام لحظة، ثم تابع حديثه بنبرة لا تخلو من الاعتذار، قائلا لي: ” لقد نسيتُ تفاصيل تلك القصة، فهل ما زلتَ تذكرها؟”.
سؤالُ مازن اعادني الى مقاعد الدراسة في الجامعة العبرية في القدس في مطلع الستينات، والى استاذي بروفيسور يشعياهو ليبوفتش الذي كان معروفا بكونه عالِما في موضوع الكيمياء العضوية، وفيلسوفا يُشار اليه بالبنان، فضلا عن كونه صاحب مواقف معادية للعنصرية لا تلميحا او تصريحا فحسب، إنما ممارسة وتطبيقا ايضا، من خلال وقوفه الى جانب الطلاب العرب، في مظاهراتهم ووقفاتهم الاحتجاجية داخل الحرم الجامعي، وكذلك من خلال مناكفته لبعض المحاضرين الاخرين من اصحاب المواقف اليمينية المتطرفة، الذين كانوا يدأبون في كل مناسبة يُذكر بها عالِمٌ بارز، على التأكيد ان ذلك العالِم كان يهوديا.
قال لنا بروفيسور ليبوفيتش في اولى سلسلة محاضراته: “ان الكيمياء العضوية هي كيمياء اليهود”. إستغرب الطلاب ان يصدر مثلُ هذا التصريح العنصري عن عالِمٍ بقامة ليبوفيتش، فقال لنا: “دعوني اثبت لكم هذا “. سكتَ لحظة ثم أضاف: ” تتكون المواد العضوية من كربون(Carbon) ورمزه الكيماوي C ومن أكسجين(Oxygen) ورمزه O ومن هيدروجين(Hydrogen) ورمزه H، وفي المواد العضوية يوجد طاقة(Energy) ولنرمُز اليها بالحرف E، وتتكون المواد العضوية ايضا من النيتروجين((Nitrogen ورمزه N “. كان بروفيسور ليبوفتش كلما ذكر رمزا من تلك الرموز، سارع الى كتابته بخط بارز على اللوح من اليسار الى اليمين، فظهرت امامنا على اللوح الاحرفُ الخمسة التالية COHEN. نظر الينا بروفيسور ليبوفيتش من وراء نظارته السميكة، وقال لنا ضاحكا على غير عادته: “أوليس COHEN هو اسم يهودي؟!”، فضجّت قاعةُ المحاضرات بضحكٍ ملأ أرجاءَها..
د. حاتم عيد خوري