عبد الرحمن الداخل وفيض من الحنين
تاريخ النشر: 31/01/17 | 4:44نُسبت لعبد الرحمن الداخل (صقر قريش) أبيات رأى فيها تماثلاً مع نخلة بسقت في الأندلس، فقد رأى الداخل نخلة مفردة بالرُّصافة، فهاجت شجنه، وتذكر وطنه.
ها هي النخلة بعيدة عن موطنها تشبه حال الشاعر الذي هو بعيد عن موطنه، فيدعو لها أن تسقيها الغيوم وأن يسح عليها المطر:
تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ * * * تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى * * * وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ ** * فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي
سقتكِ غوادي المُزْن من صَوبها الذي * ** يسِحُّ وتستمري السِّماكَين بالوَبل
كان عبد الرحمن الداخل (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك) قد سار إلى بلاد الأندلس وأخضعها لحكمه بين سنتي 756 – 788 م هـ، فسمي بالداخل.
أما الرّصافة فهو حي في قرطبة على شط النهر الكبير، وقد سماها على اسم الرصافة في بلاد الشام تلك التي بناها جده هشام. ويلاحظ أن تأثر المغاربة بالمشارقة كان إلى حد بعيد، فقد سمى الأندلسيون أسماء مدن على أسماء مدن في الشرق، بل لقب شعراء أنفسهم بألقاب شعراء مشارقة.
السِّماكان هما نجمان نيّران، أحدهما في الشمال- السِّماك الرامح، والآخر في الجنوب- السماك الأعزل، واستمرى تعنى استدعى منهما المطر.
لم أجد أي شرح يبين علاقة السماكين بالمطر، لكني وجدت في شعر العرب ما يدل على النَّوء، وهو حركة النجوم، فيقول عبد الله بن الدُّمَينة:
فما مُزنةٌ بين السِّماكين أومضت *** من الغَور ثم استعرضتها جنوبها
ويقول حمّاد يرثي أباه:
عليك سلام الله من قبر فاجع *** وجادك من نَوء السِّماكَين وابل
وثمة شاعر آخر خاطب الرشيد في تولية ابنة الأمين:
وقلد الأمر الأغرّ الأزهر *** نوء السماكين الذي يستمطر
كانت العرب في الجاهلية إذا سقط نجم وطلع آخر (النوء) قالوا لا بد من أن يكون عند ذلك مطر أو رياح، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك إلى ذلك النجم، فيقولون “مُطِرنا بنوء الثريا”، أو بنوء الدّبَران، والسِّماك. (مادة نوء- في لسان العرب)
عَود على بَدء:
من شعر الداخل أيضًا في النخل، وفي المعنى الذي بدأنا به:
يا نخلَ أنتِ غريبة مثلي * * * في الأرضِ نائيةٌ عن الأهل
تبكي وهل تبكي مكَمَّمَةٌ * * عجماءُ لم تُجبلْ على جَبلي
لو أنها عَقِلتْ إذن لبكت * * ماءَ الفراتِ ومنبِت النخلِ
يستبد به الحنين فيتشوق إلى دمشق، فيقول:
أيها الراكب الميمِّمُ أرضي ** * أقرِ مني بعضَ السلام لبعضي
إن جسمي كما علمتَ بأرض ** * وفؤادي ومالكيه بأرض
قُدِّرَ البَين بيننا فافترقنا ** * فطوى البينُ عن جفونيَ غُمْضي
وقضى الله بالفراق علينا ** * فعسى باجتماعنا سوف يقضي
من الجدير ذكره أن الخليفة توفي في قرطبة، وبسبب الفتن والحروب لم يعد أحد يعرف أين قبره، ومع ذلك فهو حاضر في الذاكرة العربية، وقد فطن شوقي إلى ذلك، فقال في سينيته:
كنتَ صقرًا قرشيًا عَلمًا *** ما على الصقر إذا لم يُرمَسِِ
إن تسلْ أين قبورُ العُظَما *** فعلى الأفواه أو في الأنفس
ماذا قلت عن الداخل:
زرت الأندلس سنة 1987، ومن أندلسياتي التي بدأتها ببيت موشح وختمتها ببيت آخر، ما قلته في قصيدتي (قرطبة):
قرطبة
في الجامع بين الأعمدة الحمراء البيضاء
كان (الداخل) يمضي للمحراب
صقرًا تعرفه كلّ سماء
فأصافح فيه العزة والكِبر
يبسم في إيمان
يتبدى في كل الأنحاء
[….]
فأعود لكي أتملى السقف
المصنوع من الذهب
ومن المرمر
وأشم عطور القمم الشماء
وأكاد أ صلي
حتى شيعت على بعدٍ ألوان الشوق الخضراء
تتمدد، تصْغُر فإخال
كيف أتاها الفاتح
يلبس تاج عِمامته
يركب فرسًا ومَضاء
عن بعد ألمحها الزهراء
فأقول سلامًا يا زهراء !
وسلامًا يا قرطبة الدين وقرطبة الآباء !
ب. فاروق مواسي