ذكريات عطرة من رمضان زمان
تاريخ النشر: 01/08/11 | 14:04بقلم الاستاذ حسني بيادسة – باقة الغربية
ذكريات عطرة عن شهر البر والإحسان.. مع حلول شهر رمضان المبارك والشهر الفضيل ونزول القرآن الكريم
قال تعالى في محكم تنزيله بعد بسم الله الرحمن الرحيم: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه” صدق الله العظيم.
وشهر رمضان وترتيبه الشهر التاسع في الأشهر الهجرية قبله شهر رجب الذي فيه ليلة الإسراء والمعراج وبعده شهر شوال وغرته عيد الفطر السعيد… وشهر رمضان ليس هو فقط الصوم أي الامتناع عن الأكل والشرب والشهوات وتأدية الفرائض من الصلاة والتعبد وقراءة القرآن الكريم ومن ثم ختمه ، والتهجد والاعتكاف في المساجد ومسك الختام إحياء ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فهو بالإضافة إلى كل ما ذكرناه يحمل رمضان معه رسالة سامية مفعمة بالإنسانية والأخلاق الحميدة ففيه التلاحم الأسري والعائلي،التكافل الاجتماعي والتزاحم والصفاء الروحي والجسدي وبالتالي فرحة الصغار وخاصة الأطفال منهم. ففي شهر رمضان شهر الخير والبركة والإحسان تجتمع الأسرة وأحيانا الأسرة الموسعة بكامل أشخاصها على وجبات الإفطار التي قلما تجتمع، في الأشهر العادية ناهيك عن الزيارات الرمضانية إلى الأرحام (مثل الأمهات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنات الأخت) يحملون معهم الهدايا أو ما يقابلها من النقود والتي أصبحت سنة درج عليها المسلمون ومنذ عهود طويلة، فصلة الرحم في هذا الشهر الفضيل لها وقعها الخاص،حيث ترى الرجال والنساء ومن رافقهم وهم يتحركون وخاصة بعد الخامس عشر من هذا الشهر، كأسراب النحل وبعد تأدية صلاة التراويح وهم في طريقهم إلى أرحامهم مما يضفي بهجة ورونقا على الليالي الرمضانية، والمؤسف حقا أن هذا التقليد الجميل أخذ ينتقل تدريجيا إلى ساعات الأصيل أو منتصف الليل بعد أن غزت الفضائيات مدننا وقرانا بحلقاتها الرمضانية المغرية كمسلسل “باب الحارة” المعروف لكل الأجيال على حد سواء.
هذه الزيارات الرمضانية ومهما أختلف توقيتها فأنها تساهم في التلاحم والتعاضد وتقوية أواصر القربى…وما دمنا نتحدث عن الليالي الرمضانية فكان لهذه الليالي في السابق والذي عايشته بعد أن من الله علي بطول العمر، كان لها طعمها الخاص المميز خاصة ليالي الصيف والربيع المتأخر ، كان آنذاك يحلو السهر على البيادر أيام جمع الحصاد ووضعه على البيدر ، فكان الرجال يجتمعون وفي حلقات ومعهم الصبية ييتسامرون ويسردون الحكايات والنوادر والملح وينشدون الأناشيد الدينية ويغنون الأغاني الشعبية ، وأحيانا كانت تمارس بعض الألعاب المسلية وتقام المباريات الشعرية والمبارزات التي تعبر عن القوة الجسدية ، وغالبا ما كانت تمتد هذه السهرات حتى وقت السحور ، أما النساء والفتيات فكن يجتمعن في باحة أحد المنازل أو في مركز الحارة يتسامرن ويسردن القصص وكثيرا ما استمعن إلى الحكواتي وهو يسرد على مسامعهن القصص ذات الطابع الديني والقصص العادية التاريخية كقصة الزير سالم،الأميرة ذات الهمة ، تغريبة بني هلال وغيرها زد على ذلك ما كانت تحضره كل امرأة من بيتها من حلويات محلية أو فواكه موسمية تأتي بها المشتركات أثناء السهرة, وهذه الأمسيات الذكورية منها والأنثوية تصب في خانة التلاحم والتآخي والتعاضد.
أما التكافل الاجتماعي والتزاحم في هذا الشهر المبارك فله عدة أوجه ، أهمها وأكثرها إنسانية وقدسية إخراج زكاة الفطر والمفروضة شرعا على كل نفس في العائلة وتقديمها إلى المعوزين، الفقراء والمساكين، أما العشاء الرمضاني والذي كان وما زال يقام عن أرواح الأموات يدعى إليه المعوزون، الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، الجيران، والأقارب تقدم في نهايته الحلوى والفاكهة وتقرأ الفاتحة وتهدى إلى روح المتوفى وكثيرا ما كانت تقام في رمضان ولائم المولد تسرد قبل تقديمها قصة مولد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكان يدعى إلى هذه الولائم أناس كالذين دعوا إلى العشاء الرمضاني, ومع تغير الأوضاع الاجتماعية والحياتية والاقتصادية وولوجنا إلى عهد العولمة والتقنية الحديثة فقد طرأ تغيير على بعض الأنماط التي عشناها وعايشناها في رمضان فبدلا من السهرات الرمضانية على البيادر أو في الساحات والحارات فقد استعيض عنها بالخيمات الرمضانية وما يتخللها من نوادر وحكايات وألعاب تسلية وعروض مسرحية أما الحلقات التلفزيونية الرمضانية فقد اكتسحت السوق وأضرت بموضوع التلاحم الاجتماعي عندما اضطرت كل أسرة الانزواء في منزلها لمشاهدة حلقات المسلسل الرمضاني الذي يستمر حتى نهاية شهر رمضان.
ولفرحة الأطفال والصبية الصغار في الشهر المبارك كانت مكانة خاصة ومميزة ندر أن نجدها في أشهر أخرى فلا زالت تتردد على مسامعي أناشيد وأغاني الأطفال الصغار الأولاد والبنات وقبيل رفع آذان المغرب آذان الإفطار وهم يرددون وبأصوات عالية وبالقرب من المسجد موجهين إنشادهم إلى المؤذن قائلين:”أذن يا شوقوقي، قبل الديك اقوقي. لذبحلك جاجة حدبة توكلها وتنام” وعندما يرتفع المؤذن بقوله: الله أكبر الله أكبر… يهتف الأطفال وبصوت واحد: “افطروا يا صايمين” وفرحة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وهي عندما يخرج المسحراتي أو المطبل كما نسميه أحيانا وهو يحمل طبلا أو صفيحة من تنك وينادي وبصوت عال وهو يضرب على الطبل أو الصفيحة: “اصحى يا نايم…يا نايم وحد الدايم…وحدوه. اصحوا يا نايمين…لا اله إلا الله” وكثيرا ما كان يقف أمام البيوت لينادي على أصحابها بأسمائهم،وجرت العادة أن تقدم للمسحراتي زكاة الفطر من أهل الحي أو الأحياء أو القرية ، وكثيرا ما رافق المسحراتي أو المطبل أطفال الحارة الواحدة وهم يرددون ما قاله ويحملون الفوانيس الرمضانية ، لقد كانت فرحة حقيقية لا تشوبها شائبة، أما اليوم فان ظاهرة المسحراتي أخذت بالتلاشي تدريجيا لتحل محلها مكبرات الصوت والآذان الأول ثم الآذان الثاني، تمشياً مع التقدم التقني.
ولعيد الفطر والذي يهل علينا مع غرة شوال ، بهجته ورونقه الخاص ، وخاصة لدى الصغار والأطفال ، فبعد صلاة الفجر وقبل تأدية صلاة العيد يصعد الصغار إلى سطح المسجد أو يعتلون المئذنة ويأخذون وبأصواتهم الشجية الطفولية بالتكبير للعيد ، وبعد الصلاة تراهم وقد ارتدوا أحلى ملابسهم وأبهجها ينشدون ويغنون ، وتراهم زرافات زرافات،أما الكبار فبعد تأدية صلاة العيد مباشرة يتوجهون إلى المقابر لزيارة الأقارب والترحم عليهم وقراءة سورة الفاتحة متأهبين بعد ذلك لمعايدة ذوات أرحامهم ، انها صلة الرحم التي أوصنا بها ربنا ورسولنا الكريم والتي لا توصل المسلم إلى الرحمن إلا بها أي بزيارة الرحم.
وشهر رمضان في النهار يختلف عنه في الليل،فرمضان هو الليل والليل هو رمضان، فخلال ساعات النهار وقبل صلاة العصر يبدو الأمر عاديا، المساجد ملأى بالمصلين حيث الصلاة وقراءة القرآن وتسابق المصلين في عدد مرات ختم القرآن، أما في العشر الأواخر من هذا الشهر فيبدأ الاعتكاف أي أن يقضي الصائم هذه الأيام في الصلاة والتعبد داخل المسجد وحتى المبيت داخله، وزيارة المسجد الأقصى لها أفضليتها الخاصة في هذا الشهر المبارك حيث يقوم بزيارته العشرات من المصلين والمصليات يوميا ومن كل قرية ومدينة في الداخل الإسرائيلي وتزداد هذه الأعداد أيام الجمعة وليلة القدر وأيام الاعتكاف فللصلاة في المسجد الأقصى أهمية خاصة وقدسية مميزة .
وبعد العصر من كل يوم من رمضان تدب الحركة داخل مدننا وقرانا وتبدأ التحضيرات لموائد الإفطار فترى حركة غير عادية بالبشر وبالمركبات وما يرافقها من ازدحامات بشرية ومرورية وأصوات الباعة المرتفعة وهو يعلنون عن حلوياتهم ومخللاتهم وفواكهم وخضرواتهم وكثيرا ما نشاهد طوابير المواطنين وهم يقفون أمام المخبز أو صانع الحلوى وخاصة الكنافة. وظاهرة أخذت تتخذ في السنوات الأخيرة طابعا خاصا مميزا وهي امتلاء المساجد بالمصلين ومن كافة الفئات والطبقات والأعمار ، وفي صلاة يوم الجمعة وصلاة التراويح تأخذ هذه الأعداد بالازدياد.. وظاهرة تأدية النساء لصلاة الجمعة والتراويح بارزة للعيان ، ففي غالبية المساجد أقيمت أجنحة خاصة بالنساء ، وعندما نقول النساء فأننا نضم إليهن الصبايا والفتيات متوسطات الأعمار والأطفال .
وبقي أن نذكر أن فوانيس رمضان التي ذكرناها آنفا وكان يحملها الصغار من الأولاد والبنات ويجوبون بها الحارات قد اختفت مع أسفنا الشديد لتحل محلها الزينة الرمضانية ، المصابيح ذات الألوان المختلفة والأهلة المضيئة التي تعلق على واجهات المنازل أو في الشرفات
وعلى أسطح المنازل.. ومع انتهاء شهر رمضان يشعر الصائمون المؤمنون بالوحشة لمفارقة هذا العزيز ونسمع المؤذن وقبل آذان الفجر وفي الأيام الأخيرة من رمضان وهو يوحش مودعا هذا الشهر على أمل أن يعيده الله علينا وهو سليما معافا ويردد قائلا: لا أوحش منك يا رمضان. لا أوحش منك يا شهر الإحسان لا أوحش منك يا شهر البركات والخيرات .
وكل رمضان وأنتم بألف خير وعافية .
لكل زمان رمضان وله ذكريات
تشكّل مثلُ هذه الذكريات الجميلة العطرة كنزا ثمينا
ومعينا لا ينضب للأجيال الجديدة الشابّة،
بوركتَ، أبا إياد، على ما أتحفتنا به من معلومات قيّمة
عن هذا الشهر الفضيل، وعن العادات والممارسات التي
كانت ترافق حلول الصيام، وبعد الإفطار!
حياك الباري استاذي الكريم وجمل ايامك بالسعادة والعطاء الخالد..
مقالاتك جوهرية المعاني..هادفة .تحمل مضامين ذهبية..
استاذي الاصيل..انت وزوجتك مربيتي الفاضلة الحاجة رقية..نجوم للخير في قلوبنا
وفي سماء الوطن…انتم اهل الوفاء والعطاء..تسجلون سطور من الذهب العتيق في العطاء
وتاريخ ادبنا المحلي..ولكم جزيل الشكر والعرفان..
اتمنى لكم الاستمرار في صنع المعروف…انتم عنوان لمكارم الاخلاق والمعروف الوفير.
استاذي الكريم…سر بدروب التالق والعظمة..وكحل عطاءك بكتاب ادبي يجمع به الجميل
من عادات مجتمعنا..انت جدير لذلك وتملك القدرة والطاقة..نحن معك وندعم هذا الهدف النبيل
السامي.. وفقك الله وسدد خطاك وجزاك كل خير ..
اتمنى لكم طول العمر والصحة والعافية…نور الباري قلوبكم بالمحبة والبهجة ..
مقال جميل قرأته أيضا في مجلتي الشهرية التي اشتركت بها الإصلاح التي تصدر في عرعرة , في العدد الأخير مع نفس الصورة , تحية للأستاذ حسني بيادسة على هذا النشاط .
رائع ولك مني كل احترام وتقدير لك ولحرمك المصون ولا يسعني الا ان اطلب من الله العلي القدير ان يديم عزك ومجدك وكل عام وانتم بخير