قراءة في “جريمة في رام الله”
تاريخ النشر: 19/02/17 | 7:26قرأتُ رواية ” جريمة في رام الله ” للروائي الفلسطيني عبّاد يحيى ، الصّادرة عن منشورات “المتوسط” الإيطالية وتحتوي على 237 صفحة من الحجم المتوسط ، تصميم الغلاف والإخراج الفني للناصري.
عبّاد يحيى روائي فلسطيني، صدرت له ثلاث روايات: “رام الله الشقراء”، “القسم 14″، و”هاتف عمومي”.
يفتتح عبّاد الرواية بخبر وقوع الجريمة: “20 تشرين الثاني 2012 – أعلنت الشرطة مقتل المواطنة ر.س البالغة من العمر 29 سنة إثر طعنها في ساعة مبكرة من فجر اليوم في شارع فرعي في حي الماسيون في مدينة رام الله، ولا تزال التحقيقات جارية لكشف ملابسات الحادث، ولم تعلن الشرطة اعتقال أي مشتبه بهم”.
الرواية من ثلاثة فصول ، أولها عنونَه الكاتب ب “رؤوف”، طالب جامعي يُحب فتاة لامس يدها صدفةً في التاكسي التي أقلّتهما من الجامعة ، يسمّيها دنيا ويبدأ برحلة شاقّة للعثور عليها في شوارع المدينة وأروقة الجامعة دون جدوى، ويبقى طيفها يلاحقه، فيكرّر عبّاد اسمها عشرات المرات في الرواية دون مبرّر، ويعيش في سراب وتقلب حياته رأسًا على عقب ، فينقطع عن عائلته ويهمل دراسته الجامعية ويشتغل في بار “لوتس” لصاحبه أبو وليم، كي ينسى تلك الفتاة التي “فقدها”.
وعنونَ الفصل الثاني ب “نور” الذي يسكن في شقة مع “رؤوف” ويقيم معه علاقة جنسية مثليّة ويصف خلالها حيثياتها وخصوصياتها، وتصوّر الرواية الحياة التي يعيشها المثلي في المجتمعات العربية، ومقدار الآلام التي يمر بها نتيجة اختلافه، وفجأة يختفي رؤوف بشكل غامض من حياته فيضيع نتيجة الفقد ويدخل في دوّامة ومتاهة حياتية .
أما الفصل الثالث فعنونَه ب “وسام”، الذي يفقد حبيبته ربى – الشابة القادمة من غزة المحاصرة والمنغلقة، لتعيش في رام الله المنفتحة – التي طُعِنَت وقُتِلَت حال خروجهما من بار لوتس حين عاد ليجلب الهاتف الذي نسيه هناك، فحاول اللحاق بالجاني وقبل أن يصل إليه عاد إلى حبيبته المُلقاة في الشارع غارقةً بدمائها، فلم يستطع إنقاذها ولم يتمكّن من الإمساك بالقاتل، ويعيد الكرّة مرارًا دون جدوى، فيهرب مشرّدًا إلى شقّته ويشعر بالتهديد والتيه متخبّطًا بالتساؤلات : ماذا كان عليه أن يفعل؟ هل كان يتوجّب عليه أن ينقذها أم يمسك بالقاتل؟ لماذا عجز عن أي منهما؟ من أين أتى هذا العجز المطبق؟ (ص 195) فيصرخ متسائلًا : “ماذا كان علي أن أفعل؟” والنتيجة “فُقدٌ” مزدوج – اغتيال ربى وانتحار وسام !
وليس غريباً أن يكون نور هو المتهم الأول بجريمة القتل التي حدثت أمام البار الذي يعمل فيه، فيكفي كونه “مثلياً” ليكون متهما بارتكاب الجريمة وصار تكثيف كل الشر ومحل كل الشكوك والازدراء وتعاملوا معه كخطأ تمّ تصحيحه (ص 200) و”الله رح يسخطنا بسببهم” (ص 201) ويصرخ بعد اعتقاله وتعذيبه، “أتأكد أنني لم أكن متهماً في جريمة القتل، بل بأكثر الجرائم شيوعًا في العالم، محاولة أن أكون أنا”.
ينجح عبّاد في هذه الرواية بتصوير تخبّطات جيل الشباب الفلسطيني – جيل ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية – الذي يبحث عن ذاته وهويّته، جيل يشعر بالهزيمة ويعاني من ضياع في عصر العَولمة ، يعاني الفقدان الدائم فيحاول الهروب ويصرخ :”هل هناك أقسى من اشتهاء ميت !” ويصل إلى النتيجة الحتمية التشاؤمية بأن “الناس تعوّدوا على الخسارات، فباتوا يُنكرون تفجّع مَن تنزل بهم” (ص 234).
يتطرق عبّاد إلى عدة قضايا اجتماعية حياتية ويوميّة يعيشها الشاب الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال ، ويتناول قضيّة لجوء العائلة للدين وموقف جيل الشباب منها، العلاقة داخل العائلة والقطيعة بين الشباب والأهل تجعله يقول “رباط العائلة الذي يدّعي الجميع قداسته يُشترى بالمال، ويُعمّد به”، يتناول ظاهرة الزيف الاجتماعي وازدواجية المعايير، روّاد المقاهي والبارات، جمعيّات المجتمع المدني والمتاجرة بها ومنتفعي الواقع الجديد وغيرها وينتقد السلطة وممارساتها اليومية صارخًا :”لا يمكنك أن تكون حُرًا بمال الآخرين”.
الرواية بحبكتها تترك عند القارئ تساؤلات كثيرة ، هل دنيا هي الوطن المفقود وفلسطين التي أصبحت حلمًا وسرابًا؟ هل ربى هي المُفارقة بين غزّة وحماس و”اغتيالها ” من قبل سلطة رام الله؟ هل نور ورؤوف وعلاقاتهم الجنسية المثليّة تمثّل الضياع الشبابي والبحث عن “هوية” فتنفصم الشخصية بزواج رؤوف التقليدي وهجرة نور؟ هل هناك حياة عادية لجيل الشباب الفلسطيني الحائر والمتخبّط بانكساراته وهزائمه اليوميّة المتواصلة؟ هل دنيا التي ظهرت فجأة كإعلامية على شاشات التلفاز الفلسطيني تبثّ خبر جريمة قتل ربى الغزيّة تصوّر الشرخ المستديم بين شطري الوطن وكأنه أمر اعتيادي مسلّم به؟ وغيرها من التساؤلات.
صُدمتُ بالضجة التي أثارتها الرواية مؤخرًا ومحاولة اعتقالها ومُصادرتها من قبل النائب العام الفلسطيني التابع للسلطة وأجهزة الأمن الفلسطينية في الأراضي المحتلة الذي يفتي بملاحقة الكاتب والناشر والموزّع، بحجّة خدشها للحياء العام! عبر استخدام عبارات وتصوير مشاهد جنسية !!
حين قرأتها، حال صدورها، لم أُخدَش ولم أشعر بإباحيتها “المُفرطة” وخاصة لمن اطلع على الأدب العالمي والعربي ومقارنةً برواية “الخبز الحافي” للروائي المغربي محمد شكري ورواية “الطلياني” للروائي التونسي شكري المبخوت، وكذلك قصة “حين أمصّ كأني أنبش روحًا” للأديب اللبناني صهيب أيوب وقصة “إنها قضية قضيب” للأديب الفلسطيني راجي بطحيش . لماذا نستخف بالقارئ؟ فهو في النهاية الحكم والفيصل وهو الذي يغربل كما يقول الروائي المصري أشرف العشماوي وله الحق بأن يُخدش حياءه أم لا بعيدًا عن مقص الرقيب !
نحن اليوم في واقع جديد متغيّر تسيطر عليه وسائل الاتصال المتطورة فكيف لنا مُصادرة فكر وكتاب لمنع وصوله إلى أعين أبنائنا وبناتنا المنفتحين على العالم ووسائل اتصاله الإباحية وغيرها ليل نهار؟ (التقرير الأخير الصادر عن كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية في دولة الإمارات العربية يفيد أن المرأة الفلسطينية هي الأولى عربيًا تفاعلًا على الفيس بوك واحتلت فلسطين المرتبة الأولى عربياً من حيث استخدام النساء لموقع التواصل الاجتماعي -فيس بوك- وبحسب التقرير فإن 44.6% من مستخدمي فيس بوك في فلسطين هن نساء!).
أثارت الرواية كثيرًا من الجدل ولكن المؤلم والمؤسف أن هذا الجدل جاء ممن لم يقرؤوها !! وهذا ما توصلت إليه حين قرأت بعض التعقيبات والتحليلات والانتقادات الناريّة وبلغ الأمر حدّه حين قرأت “تحليلًا” لدكتورة ومحاضِرة وباحثة في مجال الأدب العربي وتعليميّة النّحو العربيّ وكتبَت “انتابني فضول الاطّلاع على “جريمة في رام الله” بسبب ما نُسج حولها. لما أتحصّل عليها بعد ولكنّي اطّلعتُ على بضع مقاطع مجتزأة منها وشعرتُ أنّها ضعيفة المستوى والمضمون والمعالجة الفنيّة ، فضلًا عن التَوظيف غير المبرّر للجنس.”!! فتساءلت : لماذا ؟ أين الحياد والموضوعيّة والابتعاد عن القبيلة وأعرافها وأحكامها الجائرة؟ أنا مع الإيجابية في الإثارة وفتح المجال للتعددية وقبول الاخر ولكن بشرط أن نحترم رأي الآخر تيمُنا بما قاله الكاتب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه المعروف بفولتير المتوفي عام 1778 : ” لا أوافق على رأيك ، لكنني مستعد للموت من أجل حقك بالتعبير عنه” وكذلك : ” أمقت ما تكتب ، لكنني مستعد لدفع حياتي كي تواصل الكتابة”. لا بد أنه يتململ في قبره لسماع خبر العاصفة والزوابع التي تهبّ في رام الله إثر نشر الرواية فارحموا عبّاد و”جريمته” !
بقلم المحامي حسن عبادي