الهوية المأزومة وتجلياتها في”بر بحر” و”جريمة في رام الله”
تاريخ النشر: 22/02/17 | 13:09في زمن تحطّمت فيه الأواني المقدسة يصعب على أصحاب العقول المنفتحة والمستنيرة تقبل مُصادرة الكلمة والرأي والموقف. هذا ما تعرّض له الكاتب عباد يحيى في أعقاب صدور روايته “جريمة في رام الله” عن دار المتوسط في إيطاليا، وبطبعة خاصة بفلسطين كما اشير إلى ذلك على تظهيرة الكتاب، حيث صودرت ومنعت من التوزيع.
إنّ قرار النائب العام الفلسطيني بالتحفظ على الرواية لدواعي يبررها بكونها ترتبط بالإخلال بالأخلاق العامة لهو قرار مُجحف وغير مُنصف وبعيد كل البعد عن الواقع الحياتي الذي يعيشه انسان زماننا وسط تحولات جذرية وسريعة الوتيرة محليًا وإقليميًا وعالميًا. زمنٌ تنتشر فيه وسائل التواصل أسرع من البرق، وفي لحظات يتفاعل العالم مع أي حدث. زمن لم تعد فيه الحدود والقيود هي الموجهة للأفكار الجديدة والتحولات والثورات الفكرية… ما يجري في أيامنا يمكن توصيفه بأنّه إعادة تشكيل عالمنا من جديد… وإذا تحفّظ النائب العام عن هذا الكتاب، فإنّه لن ينجح مطلقًا في منع نشره عبر وسائط أخرى وبطريقة أسرع. وبقراره هذا دليل قاطع على احتفاظ السلطة الفلسطينية وحكومات عربية أخرى بأداة قمعية أكل عليها الزمن وشرب. فالفلسطينيون يعانون يوميًا في كل بقاع الأرض من الملاحقات والمضايقات والمجازر والضغط والترحيل… ألم يحن الوقت لوضع حد لجهاز الرقابة الفكرية والكتابية والتعبيرية؟ وتبني أدوات جديدة بعيدة عن أدوات القمع التي يستعملها الاحتلال.
الامتحان الذي وقف امامه النائب العام أسقطه للتو وبدون أي تأخير أو تلكؤ في متاهة كان في غنى عنها. لا يهمني الآن محتوى الرواية التي قرأتها مباشرة بعد صدورها وقبل التحفّظ على النسخ في مكتبات رام الله وسواها من مدن الضفة الغربية. ولا تهمني مواقف الكاتب التي أوردها في روايته… بالرغم من أهميتها لفهم السياق السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي في الحيّز المكاني الذي يتطرق اليه… ما يهمني أولاً نزع كافة القيود عن الرواية، والتعامل معها ومع كاتبها باحترام وعدم الصاق أي تهمة او شبهة بكونه ينشر أفكارا مخلة بالأخلاق والآداب وسواها… معنى ذلك رفع اليد حالا وسريعا عن التحفظ وإتاحة المجال لنشر الرواية وانتشارها ليقرأها الجمهور المعني ويعبر عن رأيه وموقفه.. وهذا يعني عدم اتاحة الفرصة والمجال لمن لم يقرأها للتعبير عن رأيه… اقصد هنا أنني لا ارغب في أن نضع قيودا على من لا يقرأ، لكن أقله إذا أراد التعبير عن موقفه بالنسبة للرواية، فليقرأها… والنائب العام وغيره يعرفون أن الكلمة لما تخرج من الفم وتكتب لا تبقى ملكا لقائلها وكاتبها… فالقرّاء هم الذين يتحولون إلى شريحة تحدد مصير هذه الكلمة والكتاب وغيره..
ولربما الصدف كانت أقوى مما يتصوره الشخص المهتم بالمشهد الثقافي والحياتي الفلسطيني في كل مواقع وجود الفلسطينيين، وأقصد هنا بالصدف ان يُعرض فيلم “بر بحر” للمخرجة ميسلون حمود في دور عرض الأفلام في الداخل الفلسطيني. وان تصدر رواية عباد يحيى في زمن متواز. ويتعرض الفيلم ومخرجته وعدد من الممثلين فيه إلى موجات من الانتقاد الكثيف، خصوصًا ممن لم يشاهده لمجرد سمع عنه أو وصلته معلومة مجزوءة من طرف ما…وشريحة كبيرة من المنتقدين صوروا الفيلم وكأنّه – أي الفيلم – رفع العصا على العقيدة الدينية… الفيلم يدعونا إلى قراءة متأنية لما يطرحه. قد نتفق وقد نختلف مع ما يطرحه. لكن الأهم أن نرقى إلى مستوى النقاش الحر المستند إلى وجهات نظر لها ما يعززها ويدعمها…
لكني اجد المشترك كبير بين هذا الفيلم وبين الرواية المذكورة أعلاه. فالمنتجان(العملان) يتعرضان إلى مواضيع حساسة ومثيرة وآنية تشغل بال وحياة الشباب الفلسطيني سواء الرازحين تحت الاحتلال وتحت سلطة فلسطينية مبتورة ومحاصرة، أو الفلسطينيين في الداخل أي في إسرائيل، والذين يعيشون في ظروف تختلف ببعض مركباتها ومكوناتها عن إخوانهم في مناطق السلطة. لكنهم يواجهون نفس آلة القمع والاضطهاد والتضييق.
في المنتجين بحث عن الهوية الذاتية “الأنا”.. بحث عن هذا الـ “أنا” بعيدًا عن أنظمة وقيود العشيرة والحمولة والمجتمع التقليدي الذي يهمه الحفاظ على الأواني المقدسة وسط جهل المقدس. مجتمع يُشدّد في الحفاظ على تقاليد بالية، ممسكا بعصي وخناجر قاتلة لحرية الـ “أنا”.
هناك شبه بين حالة الشباب العربي الفلسطيني في رام الله وفي تل ابيب. ففي رام الله حيّزات من الحرية بفعل تشكيلها مدينيا كعاصمة للسلطة الفلسطينية(مؤقتا)، وبفعل ضخ الأموال من الأطراف والصناديق المانحة، ونهج الحياة العصري الذي ارتأى كثيرون عيشه في هذه المدينة، وهذا أمر إيجابي… لكن يتم جزء من ذلك تحت ستائر سميكة من السرية والخفاء عن عيون تراقب جيدًا ما يجري… من عيون في رؤوس لا ترى إلا القيم التقليدية ممسكة بزمام المجتمع… هذا الصدام القوي بين عقليتين وتوجهين هما محور الصراع الدائر في الفيلم والرواية. الصراع على الذات الباحثة بدون كلل عن هويتها…
الشباب الفلسطيني في تل ابيب انكشف على مدينة غربية بكل مكوناتها. مدينة تنتصر للفرد وتمنحه حيّزًا واسعًا من حرية التفكير بعيدًا عن قيود وسلاسل العالم التقليدي.. لكنها مدينة تجرّده من قيم ومفاهيم إيجابية كثيرة لو عرفنا كيفية التعامل معها بإخلاص، لكُنّا نسير في طريق أفضل.
عملية الإذابة التي تقوم بها رام الله قد تختلف في بعض تفاصيلها عن تل ابيب، لكن المشترك كبير بين الاثنتين… تذوب الـ “أنا” التقليدية وتظهر على السطح الـ “أنا” الجديدة…
الشباب في المكانين يبحثون عن الجديد. يريدون تشكيل هويتهم بعيدًا عن العالم القديم الذي ثاروا عليه ولفظوه بعيدًا عن حياتهم… هذا لا يعني أنّهم لا يحترمون العائلة من أب وأم وأخوة، لكنهم يريدون عيش حياتهم وفق اختياراتهم ومحدّداتها. ووسط مفاهيم جديدة للقيم والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الجنسية وسواها من شبكات علاقات معقدة في أحوال كثيرة.
لقد أثار فيلم “بر بحر” موجة ضجة عارمة دون أن تُلامس طرف القضايا التي يطرحها الفيلم. يطرح الفيلم قضايا حارقة جدا ومنها: هروب الشباب من الواقع في محاولة للبحث عن حلول غير واقعية في أحيان كثيرة، لكنهم يحاولون لاحقًا العودة إلى الواقع… بعضهم يفلح وبعضهم يستسلم لمنظومة التقاليد الاجتماعية والعائلية، وبعض منهم يثور بكليته على ما هو قائم… ويعلن بصراحة عن هويته الذاتية… لكن لم تعالج في الفيلم القضايا التي يطرحها. قد يبدو الأمر غريبا، لكني اعتقد ان هذه إشارة للمجتمع للملمة ذاته والنظر الى عمقه ومحاسبتها.
وكذا في الرواية يثور الشباب على منظومة القيم الرابضة على صدر المجتمع، وتمنعه من التنفس بحريته… يبحث هؤلاء الشباب عن واقع جديد. يحاولون بناء هذا الواقع، لكنهم وسط الوضع الراهن لا يفلحون بالمرة.. واقع مهزوم بجملته سياسيًا واقتصاديًا ونضاليًا… فماذا ينتظر قادة المجتمع من هؤلاء الشباب؟
وهنا أيضًا تفعل التكنولوجيا فعلها العميق في إحداث التحولات في التوجهات الحياتية لدى شريحة الشباب، فيجدون ضالتهم من خلال العالم الافتراضي الذي يأخذهم إلى عوالم كثيرة لا يمكنهم فور عودتهم منها ، العودة إلى واقعهم إلا بصعوبة. وبالتالي تزداد الفجوة العمرية والفكرية اتساعًا بين الكبار المنقطعين تقريبًا عن عالم التكنولوجيا، وبين الشباب الذين يعيشون هذه التكنولوجيا بسطحيتها غالبًا، معتقدين أنها المهرب الوحيد لأزماتهم النفسية والاجتماعية والرومانسية…
الفيلم والرواية يطرحان تساؤلات كثيرة حول ما يجري من باب التشخيص، أمّا يجب القيام به من باب العلاج فأمر من المفروض مناقشته في أطر مدركة حجم القضايا… فهل يُعالَج الفيلم باعتباره مخلا بالآداب كما ادعى بعضهم؟ أم أن جرأة ما تظهر فيه لتنبه المجتمع إلى ما يجري ودعوة لهذا المجتمع ليستيقظ ويعالج حالته المأزومة؟
واستمعت إلى عدد من المثقفين الذين ناقشوا، وكنت بينهم، الفيلم والرواية بمستوى مهني وموضوعي بعيدا عن التشكيك والغوص في العموميات… وطبعا لدي، كغيري، ملاحظات وتساؤلات… لكن بينها وبين التجريح والتخوين مسافة طويلة جدا.
الدعوة في العملين الأدبي والسينمائي موجهة إلى قيادات المجتمع الفلسطيني في طول الوطن وعرضه، إلى خلع القديم البالي ونسج الجديد المتجدد. وكي لا افهم خطأ، فالقديم فيه الكثير من الإيجابيات التي يجب انتقائها والحفاظ عليها، والجديد فيه الكثير من الإيجابيات ويجب معرفة كيفيه انتقائها..
أمامنا عمل كبير وجهد مضاعف لإعادة صياغة منظومتنا القيمية والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، وفهم كيفية تقبل الرأي الآخر، بعد أن نفهم ونطبق كيفية تقبل الآخر المختلف بكل مفاهيم الكلمة.
بقلم: جوني منصور