سياسة في المزاد العلني
تاريخ النشر: 26/02/17 | 6:00قد يعزو البعض سبب إعلان عدد من الشخصيات العربية في إسرائيل عن نيتهم باقامة أحزاب أو حركات سياسية جديدة إلى ما ورد في الأخبار من تكهنات حول إمكانية تقديم موعد الانتخابات العامة؛ وإن نفع هذا التبرير لتفسير توقيت تلك التصاريح تبقَ الدوافع الحقيقية لهذه المبادرات موزعة بين حالات تغذيها مشاعر الخيبة عند من لم تستوعبهم الأطر السياسية القائمة في الصدارة، ولم تضمن لهم مكانًا ومقامًا في الصفوف الأولى، وبين حالات جدية تعكس أهداف حراكات سياسية مدروسة بعناية ونوايا القائمين عليها في منافسة أو إضعاف أو النيل من أدوات العمل السياسية الفاعلة بين المواطنين العرب في إسرائيل، وفي طليعتها القائمة المشتركة ولجنة المتابعة العليا.
في البداية يتوجب التأكيد على أن حق كل مواطن في تأسيس حركة سياسية أو حزب يبقى حقًا أساسيًا ومكفولًا، لا غضاضة عليه ولا اعتراض، بيد أن ما يجري في حالتنا الفريدة يستدعي التوقف عند حروفه والتمعن من بين نقاطه، فبعض المبادرات، كما أعلن عنها أصحابها، وإن كانت حقًا مكتسبًا لهم، تستنفر كثيرًا من التساؤلات وتستثير جملة من التحفّظات أو التحديات،لا سيما على خلفية ما يعصف بالأحزاب والحركات السياسية من أزمات واشكالات.
ثم إن إنكار معظم قادة الأحزاب الرئيسية العربية والحركات السياسية الكبيرة لحقيقة مرور تنظيماتهم بأزمات تضعف كياناتهم وتهدد بعضها، يشكّل أحد أهم العوامل لتفاقم الأزمة التي تعيشها النخب وترزح تحتها البنى السياسية القيادية والاجتماعية؛ ويغذي هذا الانكار نمو مناخ يساعد مؤسسات الدولة على اختراق مجتمعنا بوسائل شتى، هذا من جهة، ويتيح كذلك للعديد من مراكز القوى الاقتصادية الجشعة والاجتماعية المتخلفة والدينية المهيمنة والسياسية الطامعة ، التجرؤ على تحدي رصيد تلك القيادات وحاضرها وبعض أولئك المنافسين ينشط وعنده من الانتماء القويم ما يسوّغ طموحه في القيادة، وآخرون ينتهزون بؤس الحال وانحطاط اللحظة، فيتقدمون ومعاولهم مشهرة على جذوع الشجر الباسق ومنقضة على بوابات القلاع والموانيء.
وإذا قمنا بعملية مسح سريعة سنهتدي، من غير صعوبة، إلى جملة من تلك الأزمات؛ فحزب التجمع يواجه أزمة قيادة ظاهرة وحالة من الانفصام المخفي/ المكشوف بين ولاء بعض قياديه الأعمى لمؤسس الحزب والشخصية التي ما “زالت تقيم ليل الحزب وتقعده” من خلف الستائر والصحراء، وبين من يسعى للتخلص من هذا الرباط الذي يعتبرونه كانشوطة مشدودة على الرقاب لا أكثر ولا أقل، هذا علاوة على إشكالية بنيوية في تعريفه كحزب يمثل القومية العربية وضادها في حين يعمل ممثلوه من حضن البرلمان الصهيوني وتحت سقفه وهوامشه اللعينة، ومايخلقه ذلك من بون شاسع وتعقيدات ومنزلقات بين الشعارات المحّلقة وإمكانيات تنفيذها على أرض الواقع.
أما أزمة الجبهة الديمقراطية فهي تبدو أكثر تشعبًا وأخطر عمقًا، ف”زواج” الحزب الشيوعي الإسرائيلي مع مركبات جبهوية أخرى بات أقرب للوهم منه إلى الحقيقة وأكثرية تلك الفئات الأصيلة التي كانت جزءًا من تركيبة الجبهة في بداياتها الذهبية اختفت وتبخرت وما تبقى منها ليس أكثر من أطلال تذكّر بذلك الهرم الكبير الذي لامست قوته المعجزات ونفذت الخوارق، وقد نجد فيما كتبه أحد أعضاء المكتب السياسي لللحزب الشيوعي، قبل أيام على صفحته في الفيس بوك، أصدق تعبير عن هذه العلاقة المتأرجحة غير المتكافئة عندما جزم أن ” ما بناه العمالقة لن تهدمه الحشرات، نقطة” وذلك في تعبير حزبي متزمت وجو يعرف فيه الجميع من هو/ هم المقصود/ ون بكونهم حشرات ولم يسجل أحد من الرفاق تحفظًا على هذا التهجم الخطير، بل عبر كثيرون منهم عن مؤازرته وبضمنهم من يقفون على رأس الهرم الحزبي.
وإذا أضفنا إلى هذه العلاقة الملتبسة قضية خسارة الجبهة لهويتها السياسية الواضحة سنخلص إلى أنها تواجه عاصفة رملية ساحقة وهي، برأيي، أهم وعاء نضالي جماهيري قيادي له في تاريخنا أنصع الأثر ولنا في قوته أكبر الأمل، فمن الصعب أن يُجمع على ما هي هوية الجبهة السياسية اليوم! أهي ذات توجهات وطنية ليبرالية وواقعية كفاحية كما يمثله أيمن عودة رئيسها ومعه حزبيون وأكثرية أعضائها، أم ذات توجهات شبه قومية وشبه اشتراكية وتقليدية كما يرشح من مواقف بعض أعضاء قادة الحزب الشيوعي.
وبعيدًا عن مشاكل باقي الأحزاب والحركات السياسية( قد نتناولها في المستقبل) وبنظرة الى أكبر مؤسستين شعبيتين قياديتين ناشطتين بين العرب سنكتشف أن الوضع هناك ليس أقل تعقيدًا وصعوبة، فلجنة الرؤساء تحصر دورها بالخدماتي والمدني الضيق وتبتعد عن وظائفها السياسية والتعبوية الجماهيرية في واقع يعكس ما مرت به عملية الانتخابات للسلطات البلدية والمحلية والتي أفرغت عمليًامن مضامينها السياسية بشكل كلي وأفرزت قيادات من معادن جديدة ونوايا مثيرة .
في الماضي خصصنا مقالات لقضية لجنة المتابعة العليا، والتي ما زالت تعمل ببناها القديمة وبذات لجانها الفرعية ومن أهمها لجنتان اثنتان: الأولى “لجنة الحريات” والتي يرأسها الشيخ كمال الخطيب، والثانية لجنة مكافحة العنف والتي يرأسها النائب السابق المحامي طلب الصانع، الذي قرأنا له، قبل أيام، إعلانًا يصرّح فيه بشكل مباشر ومتحد عن وجود فكرة لإقامة ” جسم بديل للقائمة المشتركة ويعطي بديلًا للناخب العربي..” ومن اللافت أن يدلي بتصريحه هذا وهو ما زال يشغل منصب رئيس لجنة مكافحة العنف، لا بل وهو يؤمن أن : ” خطاب القائمة المشتركة هو خطاب عقيم ويفتقد إلى الخبرة ويحوّل التمثيل إلى مجرد رقم بدون تأثير..” وبعد قراءة ذلك نسأل كيف سيولي المواطن العادي احترامًا لهذه الأحزاب وقياداتها تحارب قادتها وإذا كان ذلك غير كاف فماذا سيقول المواطن العادي إزاء ما كتبه رئيس ” لجنة الحريات” على صفحته شامتًا وفرحًا وشاكرًا ربه بعد سقوط طائرة روسية كانت تقل العشرات من فرقة الاوركسترا العسكرية ويعلن ” أنه لولا أني لا أعرف الرقص لرقصت على أنغام الأوركسترا الروسية، فهذه أتركها لمن يطربون على الموسيقى الروسية ولكنني سجدت شكرًا لله تعالى وهنا تجوز الشماتة بكل تأكيد”، هكذا بكل بساطة ووجع قرأ الجميع. سكتوا كما سكتنا في الماضي عن بوستات لا أقل إثارة وإيلامًا .
وللتأكيد أقول أن لا شأن لي بما يكتبه أي شخص على صفحاته الخاصة، وبشكل عام، فحرية التعبير لدي موقف لا يُساوم فيه ولا عليه، لكن القضية تختلف إذا كتب عضو قيادي في حزب نحترمه ونؤيد مواقفه مجاهرًا وواصفًا كثيرين من قادة اليوم “بالحشرات” ولا يعيره أحدهم ملاحظة أو همسة، وكذلك تختلف الأمور إذا ارتأى رئيس لجنة “مكافحة العنف” في اهم مؤسسة لدينا أن ما يقوله نواب القائمة المشتركة “عقيم” وهم ليسوا أكثر من “أصفار”، وتختلف الأمور كذلك إذا دعا رئيس “لجنة الحريات” الناس ومن يعرف الرقص منهم أن يرقصوا على سقوط جثث عشرات الموسيقيين الروس فالشماتة في هذا الموت جائزة .
هذه هي حالنا وهذا هو فضاء معيشتنا، ولذلك نعود على بدء ونتساءل : من يسمع ويشاهد ويقرأ ما جئنا به كعينة صغرى من صورة أقتم كيف له أن لا يستوعب ولا يتوقف مستهجنًا أو متفهمًا أو معارضًا ما يعلنه، مثلًا، مدير مركز المجتمع المشترك في ” جفعات حبيبا” الدكتور محمد دراوشة عن نيته لتأسيس حركة سياسية وإجتماعية كي ” “تضع نصب أعينها تفضيل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والإنجازات الفعلية لمجتمعنا الفلسطيني في الداخل ، على الخطابات الجوفاء التي لا تنفع ولا تغني عن جوع ” ويتحدى عمليًا معظم قيادات الجماهير العربية ويتهم خطابها السائد “بالأجوف” وأفعالها بالهلامية، ويجزم، أيضًا، من دون أن يفهمنا ما هي بدائله، أن ظروف الجماهير العربية في إسرائيل قد تغيّرت بشكل يجب أن يقودنا إلى ” تغييرات في إستراتيجياتنا إذ لا يمكن أن نستمر بالعمل في آليات وطرق أكل عليها الزمان”
البعض سيلجأ مناكفًا هذا الإعلان أو مسائلًا إلى امتحان النوايا، وهذا صحيح وصادق ولكن ألا يتوجب أولًا على الرامين بالشك والهمس اولئك “الخطاة” بتهمة أو بحجر أو قصيدة أو شعار أن يزيلوا القذى من عيونهم ويكنسوا أحزابهم من العابثين والمزايدين وقصيري النظر. فالسياسة عندنا في مزاد علني ووكالتنا تبحث عن بواب أو ربما بوابين.
جواد بولس