تعاقب السنين
تاريخ النشر: 05/03/17 | 0:32الله أكبر ما تعاقبت الأيام والليالي، الله أكبر في كل مقر، وفي كل سافل، وعلى كل شرف عال، الله أكبر ما أقبل عام وأدبر عام، الله أكبر ملء بياض النهار وسواد الظلام، الله أكبر في بطن كل واد، وعلى ظهر كل شرف، الله أكبر تكبيراً يوجب النجاة، وينقذ من التلف، كل العباد إلى رحمته فقير، وفي نعمته مغمور، محتاج إلى خفي لطفه، وخفي عنايته، هل لكم من إله سواه يجبر كسركم، ويكشف ضركم، ويمدكم بأموال وبنين، ويحييكم على تعاقب السنين حتى تبلغوا من العمر غاية آجالكم، وقد أراكم عجائب الآيات في تصرف أحوالكم {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}1، أما بعد:
أيها المبارك:
أي قرن تعيش فيه، وأي عام أنت الآن ضيف عليه، أليس القرن الحادي والعشرين، ألا يدعوك هذا إلى الاستغراب والدهشة، ألا يدفعك إلى التسأول والانبهار: عجيبٌ كيف مرت تلك الأعوام كلها، وإلى أي مصير صار الناس كلهم، وما هو مآلهم، وإلى حال انقلبوا من يوم أن بعث الله محمداً، بل ومن قبل أن يلد، عفواً وكذا من أول يوم وطئ فيه مخلوق هذا الكوكب، والناس في تناقص، والحياة تسير، ورحى المنية تطحن؟
سبحان الله سنون مضت، وشهور انقضت، وأيام جرت، عاش فيها أناس مثلنا، وحيوا حياتنا، وربما تسألوا كما تساءلنا، لكن أين هم الآن، إلى أي شيء صاروا بعد ما كانوا.
والله أن في سير الأيام آية لكل معتبر، آية لكل متعظ، آية لكل لبيب مدكر، آية لكن {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}2.
عبد الله:
إن ما نلمسه من تعاقب السنين والأعوام، وسرعة تصرم الأزمان والأيام؛ إشارة إلى معجزة نبوية، وعلامة من علامات الساعة قد أخبر عنها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما الهرج؟ قال: ((القتل، القتل))3.
ونقل بعض أهل العلم في معنى تقارب الزمان ما جاء عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قالً: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار))4.
أيها الموفق:
أينقضي عام ويدخل آخر، وتمر الأيام والأعوام؛ دون أن نقف عليها ساعة نستفيق فيها من غفلتنا، ونتفكر في نهايتنا، ونعتبر؟
يقول – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}5، فهذه دعوة من الله – عز وجل – لي ولك أيها الأخ الكريم أن ننظر في مستقبل أعمارنا، وما قدمناه لغدنا، فإن غداً لناظره لقريب، فهل ستقبل الدعوة، وتحيا أنفاسك في يقظة من الغفوة، فوالله قد طال السبات، وقرب الفوات، وأناخت بجوارك السكرات يا أسير الغفلات، فاغتنم العمر، وبادر بالتقى قبل الممات قال الإمام الحسن البصري – رحمه الله -: “أدركت أقوامًا كان أحدُهم أشحَ على عمره منه على درهمه”.
أيها الساهي:
الحياة قصيرة وإن طالت في نظرنا:
والكل منا يعلم أن الحياةَ الدنيا لها أشكال كثيرة، وألوان عديدة، ويريد البعض منا – بل الكثير – أن ينال من لذائذها، ويستمتع بشهواتها، ويحظى بساعاتها، وغفل أن حياتنا الدنيوية متعتها زائلة، وشهواتها رخيصة فانية، مهما بذل الإنسان في سبيلها، وسعى في تعميرها، وتربع على عروشها، وجال في قصورها، فهي ساعات قصيرة يوشك أن تنقصي، ولحظات بسيطة تكاد أن تنتهي، ثم بعد ذلك سيلقى كل منا حتفه، ويعاين مصيره ورمسه قال مطرف بن عبد الله – رحمه الله -: “إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه”، ولا ندري من يعيش يوماً آخر أَوْ عاماً جديداً؛ بل لو تأملنا أعمارنا على اختلاف فيما بيننا لوجدنا أن عمرنا المنصرم سواءً أكان أربعين سنة أم ثلاثين أم عشرين؛ أشبه بدقائق مرت مرور الكرام، وهكذا الحياة الدنيا قصيرة؛ فالحذر من التقصير يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ما لي وللدنيا، إنما مَثَلي وَمَثَلُ الدنيا كمثل راكبٍ قَالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتَرَكَهَا))6، وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابرُ سبيل))، وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك”7، وزاد فيه: “وعُدَّ نَفْسَكَ من أصحاب القبور”8.
فالحذر الحذر من الاغترار بالدنيا، والانغماس في شهواتها قال أحد السلف: “لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد”، فالإنسان المسلم يُؤمن بما بعد هذه الحياة الدنيا فيُدرك قيمة الزمن، ويُسخر ساعات هذه الحياة للبِرِّ والتقوى، وللعمل بما يُرضى الله – تعالى -: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}9.
كيف نتعامل مع الزمان
أيها الكرام:
إذا كان من علامات الساعة كما أسلفنا تقارب الزمان؛ فيحسن بالمرء المسلم أن يكون ضنيناً بوقته، فالزمان من أبرز خصائصه سرعة انقضاء وقته، فهو يمر مر السحاب، ويجري جري الرياح، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
مرت سنين بالوصــال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيامُ هجــرٍ بعـدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تِلك السنونُ وأهلُها فكأنها وكأنهم أحلام
فالواجب استغلال تلك الأنفاس التي لا تعود، واغتنام ساعات العمر ولحظات الحياة بما ينفع العبد يوم الوقوف بين يدي ربه قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))10، وليكن لك في استغلال الوقت مثل ابن عقيل الحنبلي؛ إذ كان إذا أراد أن ينام جمع عنده رزمة من أوراق، فيكتب أفكاره، وعصارة عقله قبل أن ينام، هذا فقط الوقت الفارغ، وللوقت الذي ليس فيه كدٌ وتعب، وقد ترك من هذا الوقت قبل النوم وبعد النوم سبعمائة مجلد اسمه كتاب الفنون.
واستغلال الوقت أن تكون كالخطيب البغدادي الذي كان يذهب إلى المسجد وكتابه في يده، ويعود من المسجد وكتابه في يده، وسواءً أكان كتاباً، أو تسبيحاً بأصابعك، أو قراءة شيء من القرآن؛ المهم أن دقيقة واحدة لا تفوت من عمرك هباء منثوراً.
استغلال الوقت أن تكون مثل جد شيخ الإسلام أحمد بن تيمية؛ إذ كان حينما يدخل المرحاض يقول لابنه: اقرأ وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك لئلا يضيع الوقت.
واستغلال الوقت يكون مثل الإمام البخاري الذي كان يقول: أنام فأتذكر الحديث فأقوم خمس مرات، أو ست مرات، فأضيء السراج في الليل، وأكتب شيئاً من الحديث وأنام، فيتذكر فيضيء السراج فيكتب، ويتذكر ويضيء السراج فيكتب، فلا يزال كذلك طول الليل.
استغلال الوقت يكون كما كان الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – يحمل المحبرة وعمره سبعين سنة؛ قد شَاخ، ودنا أجله، ورقَّ عظمه، فقيل له: تحمل المحبرة وأنت في السبعين!! قال: مع المحبرة إلى المقبرة.
وهكذا هو السمو:
همةٌ تنطح الثريا وعزمٌ نبويٌ يزعزع الجبالَ
خذ العبرة:
فلنا في الراحلين آية وأي آية، كانوا بالأمس معنا، نآكلهم، نشاربهم، نضاحكهم، نمازحهم، وسبحان الله ها نحن اليوم نودعهم، وفي باطن الأرض نواريهم، فارقوا الأهل والأحباب، واستبدلوا بالقصر المنيف، والمسكن الهانئ؛ بيت الدود والتراب، وأنت يا عبد الله اليوم على ظهر هذه الدنيا، وغداً أنت في جوفها، فماذا أعددت للرحيل، نسأل من الله لنا ولك النجاة يوم الدين، وأن يجعلنا ممن طالت أعمارهم، وحسنت أعمالهم، وأن لا يقبضنا إليه إلا وقد رضي عنا، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وبارك على النبي والنذير البشير.