خواطرُ جامحة عن فالِنتاين وفالِنتايم
تاريخ النشر: 15/02/14 | 0:30اليوم، يجتاحُ الأحمرُ المشهدٓ في كل النواحي، ويعلنُ نفسَه سيداً على ما عداه من الألوان.
هو الأحمرُ القاني ينثرُ العقيقَ (1) ويحتلُّ الدبابيسَ والمشابك والخواتم والخواتيم والخاتمات وقد يختمُ على القلوب(2).
وفي مكانٍ قريب أو بعيد في أطراف الأرض، تلتقي عينا صبية على الطريق بعيني شاب. فتحمرّ وجنتاها ووجنتاه كلّٓ شروق وكلّٓ غروب.
لكنه الأحمرُ الصارخُ في العيون، يعتلي الليلة المنصات وصهوةَ البدايات والنهايات
ويدخلُ في الأشرطة والشرائط.
وفي مكانٍ قريب، يقطِّعُ الشقيقُ أوصالٓ الشقيق، وينثرُها بين أبي سنبلٓ وأبي الهول، ويصبغُ النيل بالأحمر النازف.(4)
هو الأحمرُ يأخذ اللونٓ من أجنحة الزنابير ويطيرُ إلى المطاعم والفنادق والمقاهي والشوارع والبلازات والمحلات (4) ويضبط إيقاعَ الكرنفال (5).
هو الأحمر المثيرُ المُهيجُ، يعرضُ الفنَّ الرفيعَ بالرقصات الدامية في ساحة لاميسترانزا (5)في إشبيلية وساحة "لا مونيومنتال" في مكسيكو سيتي؛ وها هو الماتادور (7) القاتل يغرزُ الرماح المزركشةَ بالمناديل الحمراء، في عنقِ الكائن الجبار، فيصفّق الجمهورُ الراقي في جداول الكوريدا دي توروس(8)، قبل تناولِ التارتار(9) والستيكات شبه النيئة وطبيخ ذيل الثور (10).
وعلى مقربة منا، في العراق المصدَّعِ بعون ملوك العالم، يصطبغُ "الرمادي" بالأحمر الساخن، وتنقرُ الطيورُ حورٓ العيون في الأنبار.
الأحمرُ اليومٓ هو الذي يسرقُ اللونَ من أجنحة شقائق النعمان وعناقيد العنب. وها هو يدخل في نبيذ الموت والبعث ويضمِّخ الأضاحي في مواكب الصبايا المتوحشات والفحول البشرية، حول عربة ديونيسيوس (11) التي يقودها الأسدُ الغضنفر والنمور، فيما يقف الثورُ الإغريقي في مركز المسرح.
وها هو الأحمرُ يركبُ على جناحي كيوبيد الضرير، ويلوّن رؤوس السهام التي تخبط القلوب خبطٓ عشواء. (12) وها هو نيرونُ يتناسح في وطن العرب، فيحاورُ ماء الحياة بأعمدة اللهب ويحرقُ الطفل وماءه المملَّحَ وطَشتَ حمّامه الافتتاحي.
وها هو الأحمرُ السائدُ يجتاحُ الزنانير والأحزمة والتنانير. ها هو ذا يطغى على الإعلانات والساعات الرقمية والبابيونات والربطات والقمصان والياقات والباقات والجيرزايات والسترات والجرابات والجوارب اللاحمة والصوفية والكتانية والقطنية ويفرضُ نفسَه على جلود الأحذية المسمارية والزاحفة في أقدام الكواعب.
وفي مكان غير بعيدٍ، في زمانٍ مغلّٓفٍ بالغموض، يكتبُ شخصٌ يظهرُ بالأسود والأبيض، جالسٌ في قبوٍ ما في ليلة إعدامه، كلاماً طيباً على بطاقةٍ يرسلُها إلى شخصٍ عزيز عليه. يقالُ إن اسم الكاتب فالنتاين. (13)
لكن هنا نعلنُ الآن مرةً أخرى تقهقرَنا وقعودٓنا على هوامش المركزية الغربية (14)، فيما يصبغُ الأحمرُ كلَّ شيء؛ الشريطٓ الحريريَّ الذي يضبطُ الشعرٓ المكويَّ بمسدسات الكوافيرة ومساحيق "البيرمانِنت"(15).
والأحمر لونُ الشريط الذي يزركشُ الثوبٓ على الصدر الناهد والمنهَّد بالسيليكون، في جهة اليسار، ويمسُّ طرفُه الدلّوعُ الضلعين الثاني والثالث، فيثير شغافٓ القلب ويؤجج الحُبَّ العارم.
هنا الأحمرُ يصبغُ اليومٓ الدبوسَ الذي يضمُّ ضفيرةً مُشقّٓرةً بالأوكسجين والعلكة َالمنتفخةَ بثاني أكسيد الكربون كالبالون فوقَ ثغرٍ يبحثُ عن سبب حقيقي للابتسام. وها هو الأحمرُ يطلي الأظافرٓ النَّسريةَ المعروضةَ في الدكاكين والأساورَ التي تقلّدُ الذهب والفضة. ولولا العيبُ والحياء، لخرجت بعضُ المليحات بالخمار الأحمر.
وهنا، على بعدِ فيلمٍ سينمائي، بين الكوفة ودمشق، تخرجُ الثكالى كّٓل ساعةٍ ويصرخن في وجه الأرضِ والسماء: أما آن لهؤلاء الفرسان أن يترجّلوا؟! (16)
لكن هنا تحمرُّ، اليومَ، الشفاهُ والخدودُ، وتنهال الورودُ الخمريّٓةُ ثلاثيةُ الأبعاد، المصقولةُ من البلاستيك، بعد أن تخلعَ عنها عبيرَها ورحيقَها. وهنا اليوم تنشقُّ على الطاولات وخشبِ البارات القلوبُ الكتاّنيةُ بالسهام المصنوعة من مشتقات البترول.
وغيرٓ بعيد عن هنا، في بيروت الواقفة على ريحٍ(17)، حدث ما قد يتذكرُه البعضُ عن حكاية منظمة الصليب الأحمر وقيام متعصبين من اليمين اللبناني المتطرف باتهام المنظمة بالانتماء إلى حزب الأعلام الحمراء. بهذا أثبت المتعصبون لمؤلفِ الحكاية أنهم أحمرُ من الأحمر (18).
وبعدُ،
لا أتمنى لنا لا عيدٓ فالنتاين سعيداً ولا ملتهباً.
أتمنى لنا فالِنتايم وفالنتاين فال. (19)
وتعالوا نتوقفُ عن إطلاق النار على جهنم.
إضاءات فوق-حمراء:
* عن عيد العشاق، المنسوب إلى قديس اسمه فالِنتاين، أنظر إضاءة لاحقة. أما فالِنتايم فهو لفظ جاءني عبر التداعي. أنظر إضاءة لاحقة.
1.العقيق هو الخرز الأحمر.
2.إشارة إلى الآية السابعة في سورة البقرة (القرآن الكريم).
3. إشارة إلى أسطورة أوزيريس وإيزيس الفرعونية.
4. بلازا في بعض اللغات الأوروبية هي الساحات التي يحتفل فيها في الأحياء. وفي اعتقادي أن الترجمة العربية المناسبة هي "المَحلّة".
5.هنالك جدل بين علماء اللغة حول أصل كلمة كرنفال، والأكثر شهرة اليوم هو كرنفال ريو دجنيرو في البرازيل. بعض العلماء يُرجعون الكلمة إلى إحدى اللهجات الإيطالية: "كارني فال" (carni vale). ومعنى "كارني"اللحم، ومعنى "فال" التوقف. ومعنى التعبير هو "وداعاً أيها اللحم"، أي إعلان الصوم الكبير عن اللحم في نهاية الاحتفال. وهنالك من يتبنى المعنى المجازي بمعنى الصوم عن المتع اليومية.
5.هو أقدم مسرح لمصارعة الثيران، ويقع في مدينة إشبيلية، في الأندلس (جنوب إسبانيا)، ويشكل واحداً من أربعمئة مسرح لمصارعة الثيران في إسبانيا، حيث يُقتلُ حوالي ثلاثمئة ألف ثور سنوياً.
"لا مونيومنتال" هوأكبر مسرح لمصارعة الثيران في العالم، في مدينة مكسيكو (المكسيك)، ويتسع لأكثر من خمسين ألف متفرج.
7. الماتادور بالإسبانية هو بطل مصارعة الثيران، ومعنى الكلمة "القاتل". وقبل الاستعراض والمصارعة تُطلق الثيران في دروب تؤدي بها إلى اسطبلات المسرح، فيما يجري الناس أمام القطيع ويعرضون حياتهم للخطر. المشهدُ كله شبيه بوادٍ من الثيران والبشر.
8. اسم عروض مصارعة الثيران بالإسبانية.
9.وجبة من اللحم الأحمر الحي المفروم، مشهورة في فرنسا.
10. يطهى ذيل الثور ويتم تقديم وجبات من حلقات عظم ذنب الثور واللحم الذي يغطيه في المطاعم الإسبانية.
11. ديونيسيوس، وله أسماء أخرى، هو أحد الآلهة في الميثولوجيا الأغريقية، وتطغى في هذه الأسطورة رموز الموت والدم والنبيذ والخصوبة والبعث. ويشكل الثور أحد الشخصيات الرئيسة في طقوس موت وبعث ديونيسيوس. وقد أثرت شخصيته وأسطورته في الأدب والفلسفة خصوصاً في أوروبا، وعلى سبيل المثال الفيلسوف فريدريك نيتشه، وشكلت المقدمة للمسرح اليوناني القديم.
12. كيوبيد هو ابن الإلهة فينوس في الميثولوجيا الرومانية. وهو إله الحب. يظهر في شكل طفل بجناحين، وفي بعض الأحيان يظهر ضريراً، وفي يديه قوس وسهام. وهو يطلق السهام، عشوائياً (فالحبّ أعمى)، ومن يصيبه سهم كيوبيد يقع في شِباك الحُب.
13. تختلف المصادر في من هو فالنتاين. فهنالك أكثر من قديس بهذا الاسم في إيطاليا. كما أن هنالك طقوساً مشابهة تحت أسماء مختلفة في سائر أنحاء أوروبا. ويعتقد البعض أن الطقوس أصلها وثني، اتخذت روحا مسيحية بعد أن اعتنقت الامبراطورية الرومانية الدين المسيحي وجعلته دينا رسميا. وهنالك من يعتقد بأن الحبّ الذي تبلور حول شخصية فالنتاين لا يقتصر على العشق بين الرجال والنساء، وإنما يشمل الصداقات وكل أشكال الحب وألوانه.
14. المؤسي أن بعض الناس في منطقتنا اكتشفوا هذا العيد، متأخرين قروناً عن أوروبا وأميركا وغيرها من بقاع العالم. والأنكى من ذلك، أن مظاهر توزيع البطاقات والورود الحمراء، هي مستحدثة ومن ابتكار تجار البطاقات والورود. ففي العالم يتم، في هذا اليوم، توزيع أكثر من مليار بطاقة، مما يدر أرباحاً بمليارات الدولارات.
أما مركزية أوروبا والغرب، فهي اتجاه مهيمن، يرى في باقي العالم هامشا للغرب ويقيس كل الأمور على أساس هذا المعيار.
15. بيرماننت، بالإنجليزية، معناها الدائم أو الثابت أو المستمر. والتعبير مستخدم لوصف طريقة تسريح الشعر والحفاظ على التسريحة لفترة طويلة، وخصوصاً تمويج الشعر، باستخدام مواد كيميائية.
16. إشارة إلى مقولة والدة عبدالله بن الزبير، حين طالبت بإنزاله عن صليبه.
17. إشارة إلى مقولة الشاعر أبي الطيب المتنبي (والتي اقتبسها الشاعر محمود درويش): "قلقٌ كأن الريح تحتي".
18. من يوميات مسرحية قصيرة وساخرة كانت تبث في الإذاعة، لزياد الرحباني، في سبعينيات القرن الماضي.
19. فالنتايم هو لفظٌ جاءني عن طريق التداعيات والتلاعب بالألفاظ والحروف: "فالِ ن تايم". الفال هو الفأل، الذي يشتق منه التفاؤل. والفأل هو التمني بالخير. "إن تايم"، بالإنجليزية، تعني في الوقت المناسب.
"فالنتاين فال": وداعاً يا فالنتاين.