خراريف حيفاوية
تاريخ النشر: 03/03/17 | 5:51لا بد انكم سمعتم عن العربي, الذي أطلقت الشرطة عليه النار في محطة الكرمليت في ساحة باريس ,انه ابن خالتي لزم, واصله من بلدنا.
ابن خالتي ضاقت به أزقة بلدنا ,فغادرها قبل قيام الدولة ,واتخذ من حيفا مكانا يلم من حارتها القديمة لقيمات تحميه من الجوع ,مستعينا بمهنته – تصليح البريمسات ,التي تعلمها من الحاج أبو حلوه.
والحاج أبو حلوه, رجل التجأ الى بلدنا بيدين تحملان كل مهن ذلك الزمان.. فكان مصلح بريمسات, وحلاق ومبيض قدرة نحاس, وطبيب أسنان يخلع الطواحين ووجعها ,من أفواه أهل البلد.
– “روح ابحث عن رزقتك في بلد ثانية.! هاي البلد ما فيها رزقة الا لمصلح واحد!! ” اريف
فقبل النصيحة واتخذ من (خشه) في حيفا التحتا ,بجانب محطة ميدان باريس, ورشة تصليح لبريمسات الفلاحين ,الذين يؤمون حيفا, طالبين خدمات أصحاب الصنعة.
ولم ينس بلده.. وخالته التي لم يكن له في الدنيا غيرها ,وكنت حريصا على الإشترك في الجلسات , التي كان يقضيها مع أُمي – خالته ,التي كان يقص عليها اخباره مع حيفا. وكانت حيفا بالنسبة لي, المدينة السحرية التي طالما بحثت عن أخبارها بشغف شديد ,كي استمر في تلوين الصورة التي رسمتها لها في خيالي. فكان يحكي عن المينا والفايناري والقطار العادي والارضي والسيارات والأسواق والمتاجر ودور السينما.. الكرمل وحواسه وأم الجمال ووادي النسناس…
وكان ينتظر ,على احر من الجمر ,السؤال الذي كان يجيب عليه ,بأشد درجات اللذة والتمتع.
“انا في حيفا يا خالتي لا يستغنون عني. فمرة مثلا: “خرب وابور وأغلق المينا ,والتقى جميع كبار المصلحين وخبراء السفن ,فعجزوا عن إصلاحه, فتوجهوا الي طالبين مساعدتي ,فأخذت عدتي وتوجهت الى الوابور, وامام الجميع أصلحته , فغمروني بالحب والتصفيق ,ولما أراد صاحبه اعطائي اجري ,رفضت وقلت لهم :”هذا من اجل حيفا ومينائها..!”
وكان يروي الحكايات حول اشتراكه في مظاهرات ,كانت تجوب شوارع حيفا ,تطالب بإلغاء وعد بلفور, فكان يرفع يده الى أعلى صدره ويهزها قائلا:” والله خلق كانت هناك ما إلها أول من آخر ! كلهم كانوا يصيحون عاليا :” فليسقط وعد بلفور ..فليسقط الانجليز!!”.
وكان يخرج جزدانا قديما ,ينوء بما يحمله من مستندات وأوراق’ , ويسحب منه صور كان قد قصها من إحدى الصحف ,ويبسطها أمامنا ,ويقول هذه صورة للمتظاهرين في المظاهرة التي اشتركت فيها.. وعندما سألته “هل تظهر صورتك في تلك المظاهرة!؟” . أجاب مشيرا الى احد الرؤوس التي لا يظهر إلا طرف رأسها العلوي :”هذا أنا “هذه صورتي,ومن ثم ينتقل سريعا ليعدد الأعيان والزعماء : ” هذه صورة رئيس البلدية, هذه صورة أمام الجامع ,وهذه صورة صاحب مصنع الدخان .
أخذت منه الجريدة وقرأت الخبر, فلم أجد له اسما ,ولما سألته عن السبب, أجاب اقرأ معي اشترك فلان وفلان مع ـلقابهم التي تدل على مراكزهم ومناصبهم,وتوقف عند جملة : ” وجماهير من المواطنين..” وصرخ في وجهي وهو يضع أصبعه على كلمة جماهير :
” أَلا تفهم – يا ولد !؟ انا هنا .. أنا من جماهير المواطنين ..!!
” بحلقت ” في الكلمة فلم أراه فيها !! , فهو ابن خالتي لزم, واعرف اسمه ,واسم اجداده جميعا.!
في زيارته الأخيرة لأمي بعد الحادثة, قالت أمي بعد ان غادرنا عائدا الى حيفا :”ابن خالتك تخرفن وأنا خايفه عليه ..!” وسبب قولها هذا ,قصته الأخيرة التي سمعتها منه حول مغامراته في حيفا…
“كنت كعادتي في دكاني ,منشغلاً في تصليح البريمسات..” بدأ يروي الحادثة ,وعيناه تغوصان في حلم عميق :
“واذا بمجموعة من الرجال يقتحمون علينا المحل, دون استئذان ,والخوف والهلع يقطع قلوبهما, فصاح احدهم :
” إن حيفا في خطر شديد.. إن طائرة ستسقط وسيموت من فيها, ولا ندري ما الدمار الذي سيسببه سقوطها على بيوت المدينة !!” .
“أنت الوحيد الذي سينقذنا من هذه الكارثة ..وأنت الوحيد القادر على اصلاح الطائرة وهي في الجو..!” صرخ آخر مستنجدا .
– فأخذت عدتي ورافقتهم الى مكان وجود الطائرة ,وصعدت على سلم طويل الى ان وصلت الى أسفل الطائرة ,وأصلحتها ونزلت الى الأرض ,وسط تصفيق وهتاف الجماهير, التي تجمعت لتراقب الموقف, فأصبح اسمي على كل لسان في حيفا وقضائها.
ولما أُحتلِّت حيفا في الثماني وأربعين, فرَّ إبن خالتي منها, بعدما سمع عما صنعه اليهود لأهلها العرب ,من أجل إجبارهم على مغادرتها, فالتجأ الى بلدنا, وسكن في بيت أُمه القديم ..وفتح مصلحة لتصليح البريمسات في البلد, ولكن حيفا بقيت على لسانه .
كان يسكن في البلدة ,ولكنه كان يعيش في حيفا ,ويصول ويجول في حكاياته عن ” تاريخه المجيد ” فيها على مسمع كل من يريد ان يسمعه, وأطلق على نفسه اسم “الحيفاوي ” ,فأصبح لا يجيب إلا بمناداته بهذا الاسم ,ونصب على باب محله لافتة ,كتب عليها بالخط العريض : “الحيفاوي لتصليح البريمسات” ,وكانت هذه أول لافته تعلق على المحلات القريبة, وترك لغة بلدنا ,وأصبح يتكلم بالكنة الحيفاوية.!
وبعد سنوات ,سمع ان الكثيرين من العرب, يتسللون خفيه للعمل في حيفا, فترك القرية وتوجه أليها ,وعندما وصل المكان الذي اخبأ فيه عدته بجانب خشته القديمة, هاله المنظر الذي صدم عينيه , إذ لم يبق من البيوت القديمة شيئا ,هدمت جميعها ,وتحولت الى ساحة كبيرة ,حفر فيها حفر متعددة ,يرتفع منها أعمدة من شبكات الحديد, وعمال يعملون حول هذه الحفر. وعندما أراد الدخول أوقفه احد العمال ,وصاح بالعبرية ,التي كان قد تعلم منها بعض مفرداتها من اليهود, الذين كانوا يأتون أليه طلبا لمهنته:
– قف, لا تدخل الى هنا, ممنوع.!
– كيف امنع من دخول بيتي !؟ صاح ابن خالتي.
– لقد كان بيتك.!! لم يعد للعرب شيئا هنا في حيفا. قال اليهودي بلغة التشفي.
– لن تمنعني من أخذ عدتي , حتى لو اطلقت على الرصاص ببندقيتك هذه !! قال وهو يدفعه من أمامه.
توجه الى احد العمال, وجذب الفأس الذي كان بيده, وتوجه الى شجرة ما زالت واقفه مكانها في الطرف البعيد للساحه, وبدأ يحفر حوله بكل قوته ,والعمال يحيطون به ,وينظرون باستغراب ودهشه عما سيكشف عنه التراب, الذي كان يحفر به. وما هي إلا لحظات حتى بدأت العدة تخرج:
(الزردية, الكماشة, المفك, مغلف في جلدات, ابر بابور ومقصالكرمليت في حيفا ,ولكنه بقي على قيد الحياة ,ووجدت الشرطة معه أدوات عمل بدائية قال بعد إستجوابه ,انه أراد إصلاح القطار بعد ان توقف عن العمل مدة أيام, وعجزت الشركة المشغلة له عن إعادته الى العمل, وقال أثناء استجوابه ,إنه لا يطيق ان يرى شيئا كبير)
فزادت دهشتهم واستغرابهم ولما هم بالخروج, إستوقفه مدير العمل وسأله:
– تشتغل.!؟
– وين بدي اشتغل.!؟
– هين عندنا بالعمار !!
– آه .. بشتغل .. ! رد كأنه وجد كنزا ثميناً
–
واستقر ابن خالتي في حيفا, يعمل عند اليهود ,وسمعنا أنه تزوج من حيفاوية وأنجب منها.
وانقطعت زياراته وأخباره, إلا من نتف يأتي بها العائدون – من أهل بلدنا – من زيارة حيفا .
أما الحدث الذي سيطر على الصفحات الأولى من الصحف ,وتناقلته محطات الإذاعة ,وأذهل كل من عرف ابن خالتي مفاده :” ان الشرطة أطلقت النار على مسن عربي, ظنت انه يريد تفجير خربانا في حيفا.
وقال الناطق بلسان الشرطة :” أن بالرجل مساً في عقله, وانه سيوصي بإدخاله الى احد المصحات”. والغريب في الأمر ,أن القطار عاد الى العمل بشكل منتظم, بعد إطلاق النار والقبض على ابن خالتي مباشرة ,والمسئولون هنا في حيفا ,والناس بشكل عام أصابتهم الدهشة والذهول مما حدث ويتساءلون :”هل استطاع ابن خالتي بأدواته البسيطة إصلاح القطار وإعادته الى العمل” !!؟
أما إبن خالتي ,فلم يعارض على إلحاقه بمصحة للأمراض العقلية, ولكنه إشترط أن تكون في حيفا.!!
يوسف جمال-عرعرة