عشق المذياع
تاريخ النشر: 07/03/17 | 4:34بتاريخ 23 جانفي 2017، تتصل بي المذيعة المصرية تهاني عليمي Tota Nada، وتطلب مني أن أجري معها حوارا حول بوضياف عبر إذاعة صوت القاهرة التي تعمل بها كمقدمة برامج بدرجة مدير عام، فاعتذرت بلطف وأدب واقترحت أستاذين جزائريين كما هو مذكور في صفحتها.
أٌقول حينها ” حديثك هذا سيدفعني إلى الكتابة عن أثر المذياع في طفولتي إلى اليوم، وسأخبرك أنه رغم تطور وسائل الاتصال إلا أن عشقي للمذياع لم ولن ينقطع”، فتعجب بالفكرة ما دفعها أن تذكّره من جديد وتقول له ” أنا مازلت بانتظار حديثكم عن شجن الراديو”. وبعد أن أنهيت قراءة بعض الكتب المبرمجة للقراءة، كان هذا الوعد وهذا الحنين للمذياع..
كان الطفل قبل زلزال الأصنام 10 أكتوبر 1980، يواظب وبشدة على متابعة الشيخ الحاج كتو رحمة الله عليه وهو يقدم حديث الصباح عبر الإذاعة الجزائرية على الساعة السادسة صباحا فيما أتذكر. أعانق المذياع لأسمع باهتمام بالغ للفطرة السليمة الصافية حين يتحدث عن الصدق، والوفاء، والأمانة، والإخلاص، وطاعة الوالدين، والتسامح، وصفاء الصدور، واحترام الجار، والتنافس في تقديم المعروف، واحترام الوقت، وحب النظافة. وما زال الطفل يفخر بكونه تربى على ذلك الصفاء والنقاء والطهر والعلو، خاصة وأن الشيخ كتو كان حلو اللسان وسهل البيان، وكان الطفل ينقل من حين لآخر للوالدين رحمة الله عليهما ما سمعه من الشيخ ، لأن لغته البسيطة الصافية تجعل الجميع يعجب ويتأثر بما يقول، ورحم الله الشيخ المربي الحاج كتو.
ودائما في مرحلة الطفولة حيث كان الشاعر الأديب محمد الأخضر السائحي رحمة الله عليه وعبر الإذاعة الجزائرية يقدم في منتصف النهار حصة في حدود 5 دقائق يعرض عبرها قصة مستوحاة عادة من التراث ويدعمها بآية أو حديث نبوي شريف أو بيت من الشعر وقد كان كثير الاستشهاد بالشعر، ثم يختم كلامه النفيس بحكمة نفيسة حول الصدق، والوفاء، والمروءة، والنخوة، والأخوة وغيرها من الفضائل السامية العالية. ومما جعل لهذه الحصة رسوخا بالإضافة إلى فضائلها أن إخوتي الكبار كانوا يتابعونها لأنها تتزامن مع خروجهم من العمل وتناول وجبة الغداء، وكان الكل ينتظر نهاية القصة التي يوردها الأديب السائحي بأسلوب شيق فريد يجعل السامع يتابع باهتمام وينتظر النهاية بشوق، ورحم الله شاعر الجزائر وأديبها ومربي الأجيال محمد الأخضر السائحي.
والمقام يستوجب التذكير أن الأسرة الطويلة العريضة كانت تتقاسم مذياعا واحدا، ولعلّ هذه الندرة هي التي زادت من مكانة المذياع يومها.
وفي المرحلة المتوسطة والثانوية أصبح المذياع مصدر معلومات للتلميذ، خاصة فيما يتعلق بقضايا النفط، والمديونية، والدول العربية، وإحصاءات تخص مؤشرات الجزائر وغيرها من الدول، بالإضافة إلى الصحافة الجزائرية المنحصرة يومها في جريدتي “الشعب” و”EL-MOUDJAHID”، وقد استطاع التلميذ أن يكوّن رصيدا من المعلومات الجديدة حول قضايا وطنية ودولية كان يستعملها في الإجابة على بعض الأسئلة التي كانت تطرح في الاختبارات والمناقشة في القسم ، وعلى رأس هذه المواد مادة الجغرافيا التي تعتمد على الجديد، والتي كان يتقنها التلميذ جيدا، وأعجب به أساتذة التاريخ والجغرافيا أيما إعجاب.
ومما ظل عالقا بالذاكرة ويزداد رسوخا مع الأيام تلك اللحظات الجميلة التي سبقت إعلان نتائج شهادة البكالويا عبر المذياع في جوان 1986، حيث كانت النتائج تعلن يومها عبر المذياع، وكنت يومها منهمكا في إصلاح المذياع القديم إذ بالجيران يقتحمون البيت جماعات وزرافات يبشرونني ويبشرون أمي رحمة الله عليها بنجاحي في شهادة البكالوريا لأنهم سمعوا إسمي عبر المذياع.
وفي فترة الجامعة وقبل أحداث أكتوبر 1988، كان الطالب الجامعي يتابع حصة “A CŒUR OUVERT” أي القلب المفتوح، عبر الإذاعة الجزائرية الثالثة الناطقة باللغة الفرنسية، وكانت تقدمها الإعلامية القديرة نادية بوطالب، حيث كانت متمكنة جدا في استعمال اللغة الفرنسية، ومساعدة بعض المستمعين في تجاوز عقبة اللغة، والاستماع للجميع، وعدم مقاطعة أحد من المتدخلين، وكانت الحصة بحق تعبّر وبصدق عن مستوى الحرية الذي تميّزت به الجزائر قبل أحداث 1988، وتعتبر مقارنة بالأوضاع السياسية التي كانت تمر بها الجزائر عنيفة جدا. و كانت تبث الحصة ليلا، ولا داعي التذكير بأن سحر الليل عند الشاب لا يقاوم.
ومن الحصص التي كنت أتابعها عبر إذاعة وهران المحلية للأستاذ المؤرخ يحي بوعزيز رحمة الله عليه، حيث كان يستعرض تاريخ الجزائر بصوت جهوري ينم عن حيوية ونشاط وصدق، وكنت أنتظر بلهفة شديدة حصته خاصة وأنها تقدم في حدود الثالثة صباحا فيما أتذكر، والحصة ثرية دسمة وتعد مرجعا للمهتم بالتاريخ بشكل عام وبالتاريخ الجزائري بشكل خاص، وكم أتمنى أن تنقل في كتاب يستفيد منها الجميع، ورحم الله الأستاذ المؤرخ يحي بوعزيز.
وأتذكر جيدا أن من الأعمال الأولى التي قمت بها حين دخلت الجامعة أني اشتريت مذياعا من سوق الحراش وكان قديما وأحمر اللون يناسب قدم الجيب وضعف اليد حينها، لكن ظلّ يؤنس وحدتي ليلا، ورفيقي في المراجعة، ومصدر معلوماتي في عدة مواضيع، ومخففا لآهات الطالب الأعزب.
كانت يومها حصة “سينراما” ، تبث من إذاعة قسنطينة ويقدمها إعلامي متمكن في عالم السينما والثقافة والأدب، وكان يستضيف شخصيات جزائرية وعربية، وما كان يشدني هو لغته البسيطة التي يفهما الجميع، وإتقانه لعالم الفن والمسرح والسينما، حيث كان يتفوق في المعلومة والأداء على الشخصيات التي كان يستضيفها جزائرية أو عربية أو غربية.
وطيلة الدراسة في الجامعة ظل الطالب مع المذياع يتخذه رفيقا ومؤنسا، ينتقل من إذاعة إلى إذاعة، جزائرية كانت أو عربية أو أجنبية. فهذه إذاعة BBC بأخبارها العالمية وحصصها الثقافية المتنوعة وبأداء يجلب النفوس. وزاد عشقي وتشبثي بالمذياع بعدما زارنا ونحن طلبة في الجامعة مدير إذاعة BBCوألقى محاضرة حول الإعلام بصوت مازال يدغدغ الأذن وأداء يلفت يأسر النفس رغم مرور ثلاثة عقود على الصوت الساحر والأداء، وضف لها إذاعة روسيا، وألمانيا ، وإذاعات من أروبا الشرقية يومها حيث كنت أتابع ما يجري في الشرق الأوربي، وبعض إذاعات أوربا الغربية يومها قبل سقوط جدار برلين، واستطاع السامع أن يسمع للجميع ويقارن بما يملك ويقدر. وما يجب ذكره في هذا المقام أن إذاعة روسيا وإذاعات أوربا الشرقية كانت لا تستعين بالمذيعين العرب بل يبذلون جهودا جبارة لتعلم اللغة العربية وينطقونها بسلاسة ويسر ويستعملونها في أحاديثهم اليومية وضمن مواضيع صعبة شائكة وطيلة مدة تتبعي لها التي وصلت الان إلى أربعة عقود لا أتذكر يوما أن المذيع الروسي ومذيع أوربا الشرقية إستعان بكلمة أجنبية محلية أو دولية للزيادة في الشرح والتوضيح.
ومن الإذاعات التي كان يتابعها المستمع هي الإذاعات الفرنسية المختلفة من حين لآخر لكنه كان يتابع باستمرار وباهتمام إذاعة فرنسا الدولية RFI، ليقف بنفسه وعلى المباشر على رأي وموقف فرنسا تجاه الجزائر. ومن الحصص التي ما زال يذكرها الشاب يومها حصة لعالم فرنسي متخصص جدا في التربية الجنسية، فقد كان يجيب على أسئلة المستمعين من نساء ورجال حول مشاكل تعتريهم ورغبات يسعون لتحقيقها، فيطمئن الجميع ويقدم نصائح علمية واقعية تسعد الزوج وزوجه. ومن الأمور التي مازلت أتذكرها وأنا الآن أب لأربعة أطفال، أن مشاكل العلاقات الزوجية بين الأزواج تعود لما عاشه الطفل في الصغر وتحل المشكلة بالرجوع إلى الطفولة ، لأنه من أخفى طفولته فقد ضاع وضيّع حقوق من معه، وقد قرأت فيما بعد للعالم المختص كتابه “La Sexualité Féminine”.
وظهرت حينها إذاعة البحر الأبيض المتوسط MD1 وهي إذاعة مغربية موجهة خصيصا للجزائر وأنشئت لأجل الجزائر، وامتازت الإذاعة بصفاء الصوت ووضوحه، والتحدث عن كل صغيرة وكبيرة تقع في الجزائر، ومتابعة من طرف عدد كبير جدا من الجزائريين بمختلف مستوياتهم العلمية والاجتماعية، ناهيك عن التشابه الكبير بين المغرب والجزائر، خاصة وأن الإذاعة كانت تنقل أغاني مغربية أشتهرت في الجزائر فأحيت الإذاعة الحنين إلى ذلك النوع التقليدي الذي يجمع الشعبين والجارين، لكن عمر هذه الإذاعة لم يدم طويلا خاصة بعد دخول الجزائر عالم تعدد الصحف والمنابر الإعلامية، فنسيها الجميع لأن ما كانت تقدمه أصبحت وسائل الإعلام الجزائرية تعرضه بنفسها على مجتمعها.
ومن النوادر التي ظلت عالقة بالمذياع حادثة سرقة المذياع وأنا طالب في السنة الرابعة من الجامعة حين تعّرضت غرفتي بحي بن عكنون للسرقة فجرا وأنا عائد من صلاة الفجر، وكان المذياع الثاني الذي إشتريته يحمل شريط تعلم اللغة الإنجليزية.
ومازال الحنين إلى المذياع رغم تطور وسائل الاتصال بشكل سريع وملفت، فهو يتابع الان المذياع عبر سيارته خاصة إذاعة الشلف المحلية وإذاعة غليزان التي يعتمد عليها كثيرا فيما يخص الفقهاء المتمكنين، والسيد الدرقاوي للدررالنادرة بشأن إستعمال الطريق، ونصائح الطبيب عياد، والمكلف بالتغذية، والقائم على الشعر الشعبي الملحون، وحصة الحكم الخاصة بالحكم الجزائرية الشعبية، والحصة الخاصة بأعلام الجزائر والمنطقة. أما إذاعة الشلف فما زلت أتابعها بمفردي أو رفقة الأهل والأولاد، وأتابع خاصة وباهتمام بالغ فتاوى الإمام الفقيه سي يوسف العجري والإمام الفقيه خلوفي من بوزغاية، وبعض الحصص العامة كالنصائح الخاصة بالطرقات وكذا الفلاحة، وأخبار المنطقة وما جاورها، لكن تبقى إذاعة غليزان أفضل بكثير من إذاعة الشلف وإذاعة العاصمة، ومرد ذلك أن إذاعة غليزان يدخلها المتمكن في اللغة والاختصاص، وتخاطب مستمعيها بلغة عربية سليمة بسيطة يفهما الجميع.
وأعترف وبفخر واعتزاز أن إخواننا الأعزاء من لبنان، وسورية، والعراق، وفلسطين، كان لهم الأثر في عشق المذياع بما يملكون من عذوبة الصوت وحسن الأداء، سواء تعلق الأمر بالتمثيليات التاريخية التي كانت تقدم بأداء ساحر، أو الأغاني العربية الأصيلة وتؤدى بصوت وأداء مميز، أو بعض الصحفيين الذين ملكوا الأنفس.
ولا أنسى في الأخير أن طفولتي كان على وقع متابعة الحصة التي كانت تقدم يوميا ومن الجزائر وعبر المذياع الجزائري من طرف صوت فلسطين، وكانوا بحق أصواتا من السماء تزلزل الأركان بما يقدمونه من أغاني ثورية نارية، وأشعار خالدة، وطريقة الإلقاء التي يتمنى المرء لو نقلها العرب من إخواننا الفلسطينيين، لكن الحصة التي دامت سنوات أظنها توقفت بعد إعلان الدولة الفلسطينية بالجزائر في أواخر الثمانينات فيما أتذكر.
وتحية تقدير لكل من دفع صاحب الأسطر لاستحضار ماضيه عبر أثير المذياع.
معمر حبار