الإيمان بالقضاء والقدر
تاريخ النشر: 18/02/14 | 3:20الإيمان بالقضاء والقدر هو السعادة، وهو ركن الإفادة من هذه الدنيا والاستفادة، منه تنشرح الصدور، ويعلوها الفرح والحبور، وتنزاح عنها الأحزان والكدور، فما أحلاها من حياة عندما يسلِّم العبد زمام أموره لخالقه، فيرضى بما قسم له، ويسلِّم لما قدّر عليه، فتراه يحكي عبداً مستسلماً لمولاه، الذي خلقه وأنشأه وسواه، وبنعمه وفضله رباه وغذاه، فيسعد في الدنيا ويؤجر في الأخرى.
ولا يتم ذلك إلا لمن فهم القضاء والقدر، وعرف أسراره، وعلم حكمه على فهم سلف الأمة، فهم على علم أقدموا، وعن فهم كفوا وأحجموا، فلابد من الوقوف حيث وقفوا، وقصر الأفهام على ما فهموا.
القضاء والقدر لغة وشرعا:
القضاء لغة فهو: الحكم، والقدر: هو التقدير.
فالقدر: هو ما قدره الله سبحانه من أمور خلقه في علمه.
والقضاء: هو ما حكم به الله سبحانه من أمور خلقه وأوجده في الواقع.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه
حكم الخوض في مسائل القدر:
الأصل أن المؤمن يؤمن بقضاء الله وقدره ويمسك لسانه عن الخوض في دقائق القدر، ويضع نصب عينيه عدل الله ورحمته. بهذا ينجو من أمواج هذا البحر العميق.
وقبل أن نسبح في هذا المحيط العظيم أذكر بأن اعظم الأخطار في مسائل الإعتقاد أن تنظر إليها من جانب واحد دون الإمساك بخيوطها جميعها.
مراتب القدر وأركانه:
الإيمان بالقدر يقوم على أربعة اركان تسمى مراتب القدر أو اركانه، وهي المدخل لفهم باب القدر ولا يتم الإيمان به إلا بتحقيقها كلها، فبعضها مرتبط ببعض، فمن أقر بها جميعا اكتمل إيمانه بالقدر ومن انتتقص واحداً منها أو أكثر اختل إيمانه بالقدر.
وهذه الأركان هي:
المرتبة الأولى: العلم:
وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شئ جملة وتفصيلاً، ازلاً وأبداً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، أو بأفعال عباده، فعلمه محيط بما كان، وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل، وقد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، فعلم أرزاقهم وآجالهم، واقوالهم واعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، اهل الجنة، وأهل النار.
والأدلة على هذه المرتبة من القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً منها.
1) قوله تعالى (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (الحشر 22)
أي عالم ما غاب من الإحساس و ما حضر، وقيل عالم السر والعلانية، وقيل ما كان وما يكون وقيل الآخرة والدنيا
وقوله تعالى (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق 12)
2) وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين" (البخاري).
المرتبة الثانية: الكتابة:
وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.
وقد اجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في ام الكتاب التي هي اللوح المحفوظ.
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة من الكتاب والسنة منها.
أولا: الأدلة من الكتاب:
1) قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام 38).
2) وقوله جل وعلا: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(يونس 61).
3) وقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج 70).
ثانيا: الأدلة من السنة:
1) روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاء ثم قرأ".
2) وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: "جاء سراقة بن مالك بن جعثم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل ؟ قال: "لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير"، قال: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله".
3) وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال لي: يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف".
قوله (صلى الله عليه وسلم) (رفعت الأقلام وجفت الصحف) يعنى: على اللوح المحفوظ، فهذا اللوح المحفوظ ليس فيه محو ولا إثبات للتغير.
فاللوح المحفوظ كتب اللله فيه ما سيكون إلى يوم القيامة، وما هو كائن، حتى لو أن كتاباً آخر مُحى فيه شئ واثبت آخر لكان هذا موجوداً في اللوح المحفوظ أن يُمحى من كتاب فلان كذا وكذا ولا محو ولا لإثبات فى الللوح المحفوظ، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
ويتبع هذه الكتابة الأولى – وهي الكتابة في اللوح المحفوظ – كتابات وتقديرات أخر:-
1) التقدير يوم القبضتين:
قال صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل حلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال هؤلاء في الجنة ولا أبالى، وهؤلاء في النار ولا أبالى) فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل ؟ قال صلى الله عليه وسلم (على مواقع القدر) وفيرواية (أخذ قبضة بيمينه فقال:- هؤلاء في الجنة ولا أبالي واخذ قبضة بشماله وقال هؤلاء في النار ولا أبالي)
فلا يبالي الله عز وجل بطاعة الطائعين، ولا معصية العاصين ولا يزيد في ملكه طاعة طائع، ولا ينقص من ملكه معصية عاصٍ، ولو أن أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً لأنه هو الذي قدر ذلك، وهو الذي جعله كذلك سبحانه وتعالى ولكنهم مأمورين بالأخذ بالأسباب وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن وجود القدر السابق لا يعني ترك العمل، لأن الله عز وجل كتب المقادير بأسبابها فقال (هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون) وقال (وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون) رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.
وليس هذا أمرأ مكتوباً بلا أسباب فلذا عليك أن تأخذ بالأسباب لأن الله عز وجل خلق لك قدرة وإرادة يقع بها فعلك ولكن ذلك لا يعني الخروج عن القدر.
وهذه المسألة هي التي حيرت البشرية و جوابها في هذا الحديث الذي لا يتجاوز السطر أن الناس تعمل، وكل ميسر لما خلق له، فالإنسان ليس مُيسراً فقط، ولا مخيرا فقط، لأن كلمة "مسير" يعني إنه لا اختيار له كالسيارة يقودها صاحبها ويوجهها وكونه مخيراً يعني إنه لا سلطان لأحد عليه، فكلا الأمرين باطل.
إنما يُجمع بين الأمرين فالإنسان له أختيار ومشيئة وجعل الله وقدر له قدرة فلا يلزمنا أحد بأحدى إجابتين كلاهما خطأ، فيقول لك الإنسان مسير أم مخير ؟ وكأنه يقول 5+ 5 = 9 أم 11 فنقول كلتى الإجابيتين خطأ، والصواب ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فكلمة (اعملوا) قالها ما إثبات القدر، فإثبات القدر لا يعني ترك العمل، فقال (اعملوا) فأثبت العمل (فكل ميسر لما خلق له) فكلمة (لما خلق له) لا تعني أنه يدخله بغير عمل غلا أن بعض اهل الجنة يدخلهم الله جل وعلا الجنة بلا عمل عملوه ولا خير قدموه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن النار لا يدخلها أحد غلا بعمله ولا يدخلها أحد غلا بعدل الله سبحانه.
2) التقدير العمري:
وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابة شقاوته أو سعادته.
وقد دل على ذلك حديث الصادق المصدوق في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقى أم سعيد) رواه البخاري ومسلم وابن ماجه.
3) التقدير السنوي:
وذلك في ليلة القدر من كل سنة، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (الدخان 4)
فكل أمور السنة تقدر تقديراً أخر في ليلة القدر وهذه كتابات وتقديرات قد تكون منسوخة – أي منقوله – من اللوح المحفوظ فكتب الله عز وجل ما يشاء في ليلة القدر:- من يحج ومن يموت ومن يغزو……..الخ
4) التقدير اليومي:
قال تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن 29)
(من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض أخرين) حسنه الألبانى
المرتبة الثالثة: المشيئة:
وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء كان، ومالم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة، ولا سكون، ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئته.
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً من الكتاب والسنة:
1- قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(التكوير 29)
ومشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون ويفترقان فيما لم يكن، ولا هو كائن، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة ومالم يشأ كونه فإنه لا يكون، لعدم مشيئته له لا لعدم قدرته عليه.
قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة 253)
فعدم اقتتالهم ليس لعدم قدرة الله ولكن لعدم مشيئته ذلك
الإرادة مردافة للمشيئة.
وهي تنقسم إلى قسمين:
إرادة شرعية وإرادة كونية قدرية
1) فالإرادة الكونية القدرية:
بها تكون الأشياء، وتقع كقوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) "يس82"
وهذه تشمل كل الموجودات، خيرها وشرها، ما الله منها وما أبغض، وما مدحه وما ذمه، يشمل كل شئ وجد بإرادة الله سبحانه اراد وجود غبليس وأبى لهب وفرعون ووجود الشر، وهو يبغض كل ذلك.
كما أنه الذي أراد وجود الملائكة، والأنبياء والمؤمنين، وكل الخير، ويحب ذلك فخلق ما يرضاه وما لا يرضاه، وما أراده شرعاً، ومن نهى عنه شرعاً، وخلق كلا لحكمة يعلمها فلو سأل سائل:
فلماذا خلق الله عز وجل مالا يحب؟
فنقول: خلق هذه الأشياء لحكمة يعلمها، وقد يُطلع بعض خلقه على بعض حكمه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حكمة وقوع الذنوب المكروهة لله عز وجل من عباده (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم
فهنا يظهر آثار الأسماء والصفات، فالله عز وجل يجب أن يغفر عز وجل فكيف يغفر لمن يوجد منه الذنب ؟ وإنما الأمر مرتبط بوجود الذنوب وهذا يقاس عليه ما تراه، فظهور آثار الرحمة، وظهور أثار شدة العقاب، وظهور اثار العزة، وظهور أنه ذو انتقام عز وجل وإنما ينتقم من المجرمين، ولا ينتقم من المؤمنين الذي اطاعوه عز وجل، وهذا بعض معاني حكمته عز وجل وهي كثيرة جداً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكثر بيان أنواع من الحكم الكونية، كما يكثر بيان أنواع من الحكم الشرعية، ولكن لا يحيط علماً بحكمته عز وجل إلا هو.
2) الإرادة الشرعية:
وهذه الغرادة تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه فقط، سواء أوجد أم لم يوجد (والله يريد أن يتوب عليكم) "النساء 27"
وهذه الإرادة ليست غرادة كونية وإنما هى إرادة شرعية، فمن الناس من يتوب، ومنهم من لا يتوب، والله يريد التوبة من الجميع شرعاً ولا يريدها كوناً إلا من بعضهم فالتوبة التي حدثت من بعضهم متعلقة بإرادة الله الكونية، التي هي متعلقة بكل ما يوجد مما يحبه ومما لا يحبه، والتوبة عمل يحبه عز وجل.
المرتبة الرابعة: الخلق:
وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله بذواتها وصفاتها وحركاتها وبأن كل من سوى الله مخلوق موجد من العدم، كائن بعد أن لم يكن.
والأدلة على هذه المرتبة لا تكاد تحصر منها: قوله تعالى (الله خالق كل شئ) "الزمر62"
وكذلك أفعال العباد هة من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، وهي من العباد فعلاً وكسباً، فالله هو الخالق لفعالهم، وهم الفاعلون لها
أن آيات القرآن هي آيات قوانين الوجود وظواهر الطبيعة وأحداث التاريخ التي حصلت فعلاً “أي بعد حدوثها لا قبله” والتي تظهر التطور التاريخي الحتمي في اتجاه التقدم من خلالها لأن الحدث التاريخي الإنساني هو قضاء قبل وقوعه، وقدر بعد وقوعه، وهذا الحدث الإنساني قبل وقوعه يدخل في عالم الممكنات وبعد وقوعه ينتقل إلى عالم الحتميات، لذا جاء القصص من القرآن. فقوانين الكون هي قوانين حتمية صارمة وأحداث الإنسان بعد وقوعها تأخذ صفة الحتمية، والقدر هو الوجود الحتمي للأشياء والأحداث خارج الوعي الإنساني، والقضاء هو حركة إنسانية واعية بين النفي والإثبات ضمن هذا الوجود.
فإذ تصفحنا كل آيات أم الكتاب نراها مواعظ وأحكاماً ووصايا ونصائح وتعليمات جاءت حصراً للسلوك الإنساني. فالإنسان له الخيار في أن يقوم بها أو لا يقوم، وهي مناط القضاء الإنساني وتدخل ضمن الحرية الإنسانية. وبما أن أوامر أم الكتاب فيها حركة بين نفي وإثبات، أي نعم ولا، فالله سبحانه وتعالى في أوامره لم يأمرنا إلا بالخير ونهانا عن الشر، ولكن لنا ملء الخيار في أحدهما ولا يمكن أن نمارس الأحكام الواردة في أم الكتاب إلا إذا دخلت وعينا وعلمنا بها، فوجب أن تكون صياغتها سهلة الفهم لأنه على كل الناس ممارستها خاصتهم وعامتهم، ومن هنا كانت لا تحتوي على خاصية التشابه، فلا يمكن للناس أن يصوموا إذا لم يعلموا بالصوم أولاً، وإذا علموا بالصوم فيمكن أن يقبلوا أولاً يقبلوه. أي أن أم الكتاب حتى تنفذ لها شرطان: العلم بها وقبولها، لذا فهي تعاليم إلاهية تدخل ضمن القضاء الإنساني وليست قوانين رحمانية موضوعية.
أما القرآن ففيه قوانين الوجود الموضوعي وقد قال عنه: إنه الحق “فالموت حق” ولا تتأثر ظاهرة الموت بعلم الإنسان لها أو قبوله بها الأمران سيان، والشمس حق فلا تتأثر بعلم الإنسان بها أو قبوله لها. ولهذا نقول: إن آيات القرآن فيها القدر، فالقدر وجود موضوعي والقضاء سلوك إنساني واعٍ.
من هذا المنطلق نفهم الآيتين التاليتين من سورة النساء:
1 – {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولون هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء لا يكادون يفقهون حديثاً} (النساء 78).
2 – {وما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً} (النساء 79).
تبدأ الآية 78 من سورة النساء بقوله: {أينما تكونوا يدرككم الموت} والموت حق ولا علاقة له بالحلال والحرام وتنتهي بقوله: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} وكما قلت إن القرآن هو الحديث. {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} (الواقعة 81)، فهذه الآية تتحدث عن الوجود لا عن السلوك، فجبريل وإبليس والحياة والموت كلاهما وجود من الله لذا قال {قل كل من عند الله} هذه الآية تتكلم عن المقدرات وجوداً.
أما الآية رقم 79 فإنها تتحدث عن الاختيار الإنساني فالله أوجد جبريل وإبليس وكلاهما حق ولا يوجد أحقية بالوجود لأحدهما دون الآخر، ولكنا أمرنا باتباع جبريل دون اتباع إبليس {ما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك} وبما أن أم الكتاب هي الأوامر والنواهي من رب العالمين للسلوك الإنساني حصراً وهي تشكل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أتبعها بقوله {وأرسلناك للناس رسولاً} فالآية الأولى هي آية قدر “وجود” تتحدث عن القرآن والثانية هي آية قضاء “سلوك” تتحدث عن أم الكتاب “الرسالة”.
كلام جميل والايمان بالقدر خيره وشره من واجبات المؤمن