الشاعر صادق صبيحات في ديوانه الأخوين الشهيدين باسم وحسين صبيحات
تاريخ النشر: 18/02/14 | 4:35اطل علينا الشاعر الأستاذ صادق حسين عبد القادر صبيحات، مؤخراً، بديوانه الأول "الأخوين الشهيدين باسم وحسين صبيحات"، ويضم بين دفتيه قصائد شعرية رثائية ووطنية وسياسية ومناسباتية، انبثقت من رحم المعاناة والعذاب النفسي والهم الذاتي والوطني العام والنبض الفلسطيني الحي، وخرجت كلماتها من بين اللحظة الشعورية بكل صدق وعفوية إنها نفحات روح ونبضات قلب حزين باكي وملتاع، وبوح صادق مشحون بالمشاعر الجياشة الفياضة، وجراح نازفة مخضبة بدم الشهداء، ومسكونة بالألم والوجع ونبرات الحزن والأسى والغضب، كان قد كتبها وقالها في ولديه الشهيدين "باسم "و"حسين" وفي مناسبات مختلفة ومتعددة، ويبوح فيها بأحزانه من شجون وآهات، ويمجد شهداء الوطن والحرية، الذين جادوا بدمائهم وحملوا أرواحهم على اكفهم ومضوا على درب الشهادة والموت فداءً لفلسطين، وصنعوا من دمائهم منارة وهتافات النصر والفرح.
صاحب الديوان الشاعر صادق صبيحات من قرية رمانة قضاء جنين في الضفة الغربية، وهو معلم سابق متقاعد منذ العام 1988، خدم اثنين وثلاثين عاماً في سلك التدريس، وقضى حياته في تربية وتنشئة الأجيال وغرس القيم الوطنية والأخلاقية والإنسانية، وتغذية أبناء الوطن بالحس والشعور الوطني والقومي والديني والثقافي.
أما غلاف الديوان فيعبر ويجسد ثلاثة اقانيم وأبعاد هي الوطن / الهوية / العلم / الأرض، والاحتلال البغيض الرابض على صدر الشعب، والشهداء الأبرار الذين يختزلهم بابنيه الشهيدين باسم وحسين صبيحات.
ارتأى صبيحات أن يكتب مقدمة ديوانه بنفسه، وليس كما جرت العادة أن يستعين الشاعر أو الكاتب بأحد المعارف من النقاد أو المثقفين ليكتب تمهيداً لكتابه أو ديوانه، ومما كتبه في مقدمته: "لقد أكرمني ربي باستشهاد اثنين من أبنائي وكلي فخر بذلك وهما: الشهيد البطل باسم صادق صبيحات الذي استشهد في الانتفاضة الأولى بعد معركة استمرت أربع ساعات في حقله وعلى تراب أجداده، استشهد ويده مطبقة على الزناد بعد أن أوقع بجيش الاحتلال العديد من الإصابات بين قتيل وجريح، وكان ذلك مساء يوم 15.8.1992 الساعة العاشرة والنصف (فلا نامت أعين الجبناء فأنا أبو ك يا باسم).
والشهيد الثاني: الشهيد البطل حسين صادق صبيحات الذي استشهد في الانتفاضة الثانية اثر كمين نصب له ولبعض إخوانه المجاهدين على مدخل مستوطنة (عناب) وكان استشهاده بتاريخ 20/ 5/ 2004، استشهد تاركاً خلفه أربعة أطفال (رابعهم كان جنيناً في بطن أمه) فأسميناه (حسين) ليبقى اسم والده الشهيد حاضراً، استقبلت نبأ استشهاد ولدي الثاني ولسان حالي يقول بكل شموخ وعزة ملبياً نداء الوطن:
ولكن ما يعزيني بأني نذرت إلى الحما نخب الشباب
فللأوطان في دمنا حقوق يجود بها الشريف بلا حساب
وفي الإهداء الذي جاء شعراً، يرد على الذين سألوه: لمن أهديت شعرك والقصيد..؟! فيقول:
قالوا لمن اهديت شعرك والقصيد للشامخ الكرار للبطل الشهيد
للفهد للمغوار في ساح الوغى في الحقل والزيتون والجيش العديد
للشم للأبطال للأرض التي روت ثراها من دما حبل الوريد
للام للأخوات للزوج التي زفت لحور العين مشتاقاً جديد
اهدي إلى ولديَّ كل قصائدي يا من أنرتم ظلمة النفق البعيد
يا من أفاخر فيكما كل الورى مرحى لأم أرضعت ذاك الوليد
طوبى لأم قدمت أبناءها يجري الشهيد إلى الوغى تلو الشهيد
يا (باسما) متصديا جيش العدا فأنا أبو ك الذي بكما سعيد
هذا أخوك (حسين) جاء ملبياً فلتحتفي جذلان بالضيف الجديد
في القصيدة الأولى من الديوان ينعى ابنه الشهيد باسم، رمز الفداء، وشبل الأسود، الذي جبل دمه الذكي وتخضب بتراب فلسطين المفدى، وسقط شهيداً برصاص المحتل الغاصب فوق أرض الآباء والأجداد، فلنسمعه يقول بصوت متهدج حزين وكئيب، ولكن بكل فخر واعتزاز وشمم وإباء:
أنعيك يا ولدي إلى كل الفهود أنعيك من وطني إلى كل الوجود
أنعيك من بلد الشهادة والفدا أنعيك يا أسداً ويا شبل الأسود
ها قد صدقت العزم يا رمز الفدا وجبلت في دمك الزكي ثرى الجدود
حشدوا لك الجيش العرمرم بعدما عرفوك عنوان التحدي والصمود
وفي الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده يفيض قلبه حزناً ولوعة، فيعانق الجرح ويسكن الألم، وتتفجر نفسه بكلمات شاعرية تنبض بالصدق والحرارة والإحساس النبيل الجارف لفقدانه فلذة كبده، الذي سقط مضرجاً بدمائه وسمت روحه إلى باريها بنبل وطهر، بعد أن قهر جند الاحتلال وهم واجمين:
لباسم إنا ذكرنا الفداء لعام مضى تطوي كل البلاء
إلى جنة الخلد حيث الرضا وروحك تطوي عنان السماء
بنفسك جدت فأنت الذي وفيت لأرض وشعب سواء
وروحك تسمو إلى ربها بنبل وطهر وكل إباء
فلا عاش كل جبان خنوع وما مات قَطً شهيد الوفاء
أما في ذكراه الخامسة فيعود ليرثيه مجدداً، مضيفاً صوراً ومشاهد أخرى من عملية الاستشهاد التي تعرض لها ابنه الشهيد "باسم" بعد مقاومة شرسة وعنيدة مع جنود الاحتلال، الذين أرعبهم ولم يجرؤوا الاقتراب من جثته فدفعوا بكلابهم المدربة أولاً:
لم يجرؤ الجيش المظفر بعدها بالقرب من ساح الوغى خذلانا
بل أرسلوا أذكى الكلاب مخافة ممن أتوا من اجله قطعانا
في خفة الكلب المدرب أمسكت رشاشه وسلاحه إيذانا
هذا الشهيد المستحق لاسمه لا من قضى في بيته ريانا
ويتراكم الحزن المريع، حزن النفس لدى الشاعر صادق صبيحات عندما استشهد نجله الثاني "حسين"، فيفجع قلبه مرة أخرى ويكتوي بنار الفراق وحرقة البعاد، فيرثيه ويناجيه في عدد من القصائد المشبعة بالأنين والاشتياق ومهجة الروح ووجع الفؤاد، اختار منها قصيدة "للأوطان في دمنا حقوق"، التي يقول في مطلعها:
يمينا يا (حسين) فجعت قلبي فأرجو اللـه تخفيف المصاب
فزاد الرزء نفسي كل حزن فما أهنا بأكل أو شراب
فيا ولدي احتسبتك عند ربي ولي شرف عظيم باحتسابي
وأرجو أن تكون لنا شفيعا بيوم الحشر في يوم الحساب
إذا ما جن ليلي يا (حسين) فما أقوى على حمل المصاب
شهيدين احتسبتكما لعمري وهل قلبي سوى قلب احتساب
وفي أحد أبيات هذه القصيدة يستحضر ويستذكر اسم الشهيد الكاتب الفلسطيني ماجد أبو شرار، صاحب "الخبز المر"، الذي استشهد في روما، فيقول:
واني ما سلوت (أبا شرار) وما قلبي استراح من العذاب
وما يجمع بين قصائد الشاعر صادق صبيحات الرثائية هو النغمة الحزينة والشعور العفوي والإحساس بالفقدان والفجيعة وانكسار القلب، الذي ينتهي بانتصار الإرادة والعزيمة، فتتحول نصوصه من رثائيات شخصية إلى رثائيات وطنية بنكهة فلسطينية.
ويتفاعل صبيحات بصورة تلقائية مع الأحداث ومع هموم وهواجس شعبه وقضاياه اليومية، فيحاكي الواقع، ويعبر عن الألم والوجع الفلسطيني، وما يعانيه ويلاقيه أبناء جلدته وشعبه من ظلم وقهر وشراسة المحتل. وفي قصيدة له يخاطب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، القائد المغوار، راعي الدار، الثابت الصامد كالطود الشامخ، الذي لم تلن له قناة، ولم ينثن لا للريح ولا للإعصار، حين حاصرته سلطات الاحتلال وحكومة العدوان والاستيطان في المقاطعة برام اللـه.. فيقول:
يا أيها الطود الأشم بهمة لا تنثني للريح والإعصار
هذه مقولتك التي رددتها تبا لهم في عزل وحصار
فالطود يهزأ بالرياح إذا عتت يا للثبات لفارس مغوار
ولا ينسى صبيحات حصار غزة والعدوان على شعبها، الذي سجل صفحات مضيئة في سفر النضال والبطولة والمقاومة ضد الغزاة والمحتلين بصموده الأسطوري الذي فرض وقف القتال والمواجهة، فيقول في قصيدة "جسوم وأشلاء ممزقة":
يا أهل غزة لا تأتسوا ولا تهنو أنتم الشم عند اللـه والأمم
ماذا أقول لحكام لنا وهنو قد حار فكري وما يجري به قلمي
وصرت أبحث بين العرب عن رجل علي أصادف من يرقى (لمعتصم)
إني لأعجب من قاداتنا صمتوا ماذا صنعتم لنا في جملة (القمم)
يا من نظرتم إلى التلفاز في دعة هلا شعرتم بتشريدي وفي ألمي
وفي قصيدة "إني فلسطيني" يفتخر ويعتز بانتمائه العروبي وإلى فلسطين، التي يفديها بروحه:
أني فلسطيني في أمجادي أفدي بروحي تربة الأجداد
إني فلسطيني في نسب الأولى فالقدس قدسي والبلاد بلادي
ويفرد صبيحات في ديوانه قصائد وأبيات شعرية كثيرة لزهرة وعروس المدائن، القدس، القبلة الأولى التي لها مكانة ومنزلة خاصة في نفسه ووجدانه لقدسيتها، والتي أثنىي عليها في الكتاب السرمدي -كما يقول- وتنتظر الخلاص وطلوع الفجر، واصفاً إياها بمهد الثقافة والحضارة، وكلما أبصرها أبصر جنات النعيم، فيقول في قصيدة "شدوا الرحال":
شدوا الرحال إلى القدس مكبلة هلا أفاق صلاح الدين يحميها
شدوا الرحال إلى قدس مضرجة بدم الشهادة قاصيها ودانيها
شدوا الرحال إلى ارض مباركة ما من مجير ولا شهم يواسيها
وعند حديثه عن القدس يعمد إلى ذكر المقدسات والأماكن الدينية فيها، مستلهما التاريخ:
أني بقدسي مفتون بصخرتها مسرى الرسول لها روحي وأشعاري
ويزخر الديوان بالتشبيهات والأوصاف والاستعارات والمجازات والإشارات والدلالات والمواقف من الماضي وعبق التاريخ العربي الإسلامي، ويستحضر أسماء شخصيات ورموز إسلامية تاريخية كصلاح الدين والرشيد والمعتصم والفاروق عمر ابن الخطاب، ويوظفها في قصائده لتخدم غرضها وموضوعها، إضافة إلى استحضار أحداث ومشاهد من مخزون الذاكرة العربية والفلسطينية المعاصرة كحادثة إعدام الرئيس العراقي صدام حسين ليلة عيد الأضحى، وحادثة رفع الحذاء بوجه الرئيس الأمريكي بوش من قبل الصحفي العراقي منتظر الزيدي وسواها الكثير. وكذلك ذكر العديد من أسماء الشهداء والمناضلين والثوار الفلسطينيين مثل "أبو درة" و"أيمان حجو" وسواهما.
وإذا كانت قصائد القسم الأول من الديوان مضمخة بدم الشهداء ورائحة الوطن، ومغمسة بأصالة القضية، وتمجد الشهداء، وتتغنى بالأرض والهوية والعلم والشهيد والأسير والجريح والمقاوم الفلسطيني، وتهتف لأم الشهيدين "باسم" و"حسين"، التي صمدت وتعالت على الجراح ونهضت راضية مرضية، فإن قصائد القسم الثاني تسجل يومياته التربوية حين كان معلماً حتى خروجه للتقاعد، وهي بمعظمها قصائد مرتبطة بمناسبات اجتماعية ويغلب عليها الطابع الوجداني الإنساني والعاطفي والشخصي.
ويحتل المكان خصوصية وسمة بارزة في قصائد صبيحات، وكما هو معلوم فإن المكان عنصر أساسي ومحرك قوي لفكرة الشاعر وإحساسه ونبضه وارتباطه فيه، ومنه يستمد مفرداته وموضوعاته، كما أنه يضفي بعداً فنياً على القصيدة وفق حالته التعبيرية والشعورية ومعاناته وآهاته وما حل فيه من ظروف قاسية وصعبة ومعاناة مريرة، وعلاقة الشعراء بالمكان جعلت قصائدهم تتسم بالرقة والروعة والجمال، لأنهم يستمدونه في وصفهم وتصويرهم الشعري بكل جماليات الحدث والذكرى. ومن بين الأمكنة التي يرددها ويذكرها شاعر الشهداء والرثاء صادق صبيحات في قصائده: "عناب" التي شهدت استشهاد ومصرع ابنه، والمسجد الأقصى، وباب الساهرة، والقدس، والخليل، وجنين، والمثلث، وجبال الناصرة، والبراق، وحيفا، وعكا، ويافا، وغير ذلك.
من نافلة القول أخيراً، أن قصائد ديوان الشاعر صبيحات "الأخوين الشهيدين" رغم التقريرية والمباشرة والوضوح وغياب الصور الفنية المكثفة في عدد منها، وخلوها كلماتها من الهمزات وبحاجة إلى التهذيب والتشذيب والتقليم والمراجعة، إلا أنها تبقى قصائد مغمسة بدم القلب، وتمتاز بالصدق العفوي، والانفعال العميق، والتوهج العاطفي، وتتجلى فيها المأساة والمعاناة الصادقة والفجيعة بعدة صور تدمي الفؤاد وتدمع العين. وهي تنتمي لاسلوب "السهل الممتنع" البعيد عن الغموض والرموز والتراكيب المعقدة، والقريب من ذائقة الناس وعامة الشعب. ومع الترحيب بالديوان نتمنى للشاعر صادق صبيحات العمر المديد، والمزيد من العطاء الشعري، وقدماً إلى أمام.
ان القلب يتلوع من كلام وشعر صادق صبيحات وبالفعل هو صادق.والابناء الشهداء هم تربيه الاب الوطني الشريف النزيه.فاوسمه الشجاعه والشرف ان شاء الله عند رب العالمين.