الموت الملعون
تاريخ النشر: 20/02/14 | 15:17كلكم تعرفون سعيد الشرقاوي.. وكلكم تعرفون قصته مع جامع البلد والمصلين فيه.. ما أسباب انزوائه في بيته ومقاطعته للمسجد.. فهو لا يغادر بيته الا في أيام الجمعة.. ليؤدي الصلاة في مسجد القرية المجاورة ,بعد ان اقسم الايمان ان لا الغلاظ ان لايصلي في مسجد القرية مع أهلها حتى مماته.
وسعيد الشرقاوي هو رجل عادي، من فلاحي القرية,عاش يزرع أرضها التي ورثها عن ابيه..تزوج من ابنة عمه، التي يحتار أهل البلد.. كيف قبلت به زوجا.. وقبلت لسانه.. فقالوا: "ابنة عمه مجبورة فيه..!!"
وقالوا: "النار خلفت سكن..!!" وذلك لعدم سيره في طريق ابيه، الذي درس اصول الدين في الازهر، ورجع الى البلد حاملا الشهادة العليا، وعاش حياته اماما لمسجد القرية ,تقيا صالحا , ينشر الدين والمحبة في قريته والبلاد عامة، يلجأ اليه الناس في الفتاوي في امور دينهم ودنياهم، كان يعطيهم من علمه الغزير ,دون ان يتقاضى اي مقابل..
حاول الشيخ ان يجعل من ابنه وريثا له.. ولم يترك دارا للعلم الا وارسله اليها.. وكان عاقدا العزم، ان يرسله الى الازهر، ليرجع الى البلاد ليكمل مشواره في تعليم اهلها , اصول دينهم ودنياهم. الا ان سعيد "لم يضع العلم والتعليم في رأسه..! ".
فانقطع عن ارتياد دور العلم، مما سبب حزنا وحسرة لأبيه , وتولى الارض ,يزرعها ويعتاش من خيراتها.
ونوادر سعيد متعددة وكثيرة.. منها ما هو مسلي ,مكونا مادة للضحك والتندر، لأهل البلد، ومنه ما كان مثارا للغضب والاستنكار والأشمئزاز من قبلهم.
واحدة منها كسب فيها الكثير من مشاعر الحب والاعجاب، حتى بلغ بأبي سالم السعدي ان يقول -وكان من النادر ان يمدح أحدا-: "يحيى البز اللي رضعك يا سعيد..!!".
وسالم السعدي كان حاضرا يوم زيارة مسؤولي وزارة الاديان ,ومنهم من كانوا، من "الشباك" ومتخفين تحت "قبات"، وتكلموا متسلحين ببعض الآيات القرآنية ,والأحاديث النبوية، وبمختار القرية.
ولنترك لسالم السعدي المجال كي يروي لنا تفاصيل ما حدث في هذه الجلسة: "وما ان سمع سعيد رجال الحكومة، يعرضون على أبيه الشيخ، امامية المسجد بمعاش من خزينة الدولة، مقابل ان يهلل الدولة وأعمالها الجليلة في خدمة مواطنيها العرب، حتى طار صوابه، وأطلق للسانه العنان فصاح من "قحف " رأسه:
"أنتم حكومة بنت كلب..!! أنتم حكومة بنت…!! أنتم حكومة أخت..!! وكلها أوصاف من "الزنار وتحت" أكمل سالم روايته
للحادثة مجنبا نفسه مشقة ذكرها.
ولما سمع رجال الحكومة اقوال سعيد ,هرعوا الى سياراتهم، وغادروا البلد، ولم يعودوا الى بيت الشيخ مرة أخرى.
واستغرب أهل البلد رد فعل الشيخ، على "الدرر" التي كالها ابنه لرجال الحكومة، فقد كانت عبارة عن تعابير وجه ,يطفح بالرضا والاستحسان.
لقد حذرهم الكثيرون من نتائج هذا العمل.. وقالوا لهم ان مرافقة سعيد ,مجازفة غير مأمونة النتائج.. خصوصا في بيوت العزاء، والتي تتطاب زيارتها قدرا كبيرا من الخشوع والوقار، احتراما للميت وأهله وأقربائه والحاضرون في وقت الزيارة.. ذكروهم بلسانه الذي لا يستطيع -هذا الرجل- التحكم به أو كبح جماحه، الذي يبث سما من الكلمات المقذعة.
ولكن سعيد اقسم أغلظ الايمان انه سيصمت صمت أهل القبور
,وسيقفل فمه " بكندرة " , وأنه لن ينبس ببنت شفة حتى لو خرج الميت من قبره ,فصدقوه وسمحوا له بمرافقتهم الى بيت العزاء اقيم لميت في القرية المجاورة.
وبيت العزاء هذا كان قد أقيم لشاب لقي حتفه نتيجة لحادث طرق اليم وترك هذا الفقيد زوجة شابة وطفلين صغيرين ,وقد عم الحزن الشديد بلده والقرى المجاورة.
وعندما وصلوا , سلموا عاى مستقبليهم من أهل الفقيد ,جلسوا في أماكنهم ,وشاركوا الحاضرين الاستماع الى شيخ , كان يصول ويجول.. يصرخ وينذر ويتهدد..مطلقا العبارات البليغة , معددا الآيات والاحاديث, التي تذكر الناس بالموت وعبره, وتحذرهم عدم الاستعداد اليه,وانه حق من عند الله. ولم يتوقف الشيخ الا بعد ان, انهكت حباله الصوتية, وكلت شفتيه ولسانه.. فسكت.. وساد المكان صمت ثقيل تستطيع قطعه بسكين..!!
واذا بصوت، يخرج من زاوية بعيدة ,صارخا كأنه قنبلة موقوتة:
"الموت -يا جماعة- ابن كلب..!!".. الموت –يا جماعة- ابن زانية..!!"..
توجهت الانظار الى مصدر الصوت.. لقد كان سعيد.. سعيد الشرقاوي بلحمه ودمه.. وبلغته التي لا يتقنها أحد مثله..
"الموت -يا جماعة- ابن "كندره " لايحلوا له الا ان يقبض على ارواح الاعزاء..!!" استمر سعيد في اطلاق "درره" في وجوه الحاضرين..
"ما ذنب هؤلاء الاطفال حتى يأتي هذا السافل.. ابن السافلة ويحرمهم من ابيهم..!!؟ "تساءل سعيد مستمرا في هجومه المسعور على الموت، وسط وجوه غزاها الذهول فجمدها
واستمر في كيل اللطمات لها بغير رحمة.. غير مشفقا على مستمعيه..!!
"اي ذنب جنت , هذه الام حتى يحرمها هذا "ابن الداشره "من ابنها الوحيد..!!"
ولما افاق مرافقوه من الصدمة, انسحبوا مسرعين كالبرق الى سياراتهم ,تاركين سعيد خلفهم, فاضطر الى ان يعود القريته ماشيا على قدميه، واقسموا انهم لن يرافقوا سعيد ,الى اي مكان بعد الآن
حتى ولو كلفهم ذلك مقاطعته لهم.
وخطبته الاخيرة هي التي "كسرت" ظهر الجمل..
قبلها خطب عدة خطبات.. ورغم ان الموقف كان مهددا بالانفجار, الا انها مرت بسلام.. كان يعرف ان معظم أهل بلده, غير موافقين على استيلائه على منبر الاماميه , خلفا لأبيه بعد وفاته.. عرفها من خلال التذمرات الهامسة التي كانت تلاحقه..والعيون التي كانت تهاجمه من كل جانب.. ولكنه كان يعرف ان هذا الحال لن يستمر طويلا.. ولا بد ان يأتي ذلك اليوم الذي يتفجر فيه هذه المشهد الغريب..!!
صعد المنبر.. وحوام من الهيجان، يغلي في عروقه.. بعد ان وصلت الى اسماعه اخبار اعتزام السلطات , تعيين امام بمعاش
للمسجد، وذلك" استجابة "لعريضة قدمت لها من قبل سكان البلد..!
شعر انه يتلقى ضربتين موجعتين ,لا يدري ايتها أكثر ايلاما : الموجهه له ,والتي تنزع الثقة من آهليته للامامية.. ام لأبيه ألشيخ الجليل ,الذي كان يقاوم كل محاولات السلطات ,الاستيلاء على المسجد.. "يريدون دفن تعاليمه ,قبل ان يجف التراب الذي دفنوه به.. !!" هذه العبارة كانت تهاجم تفكيره, فتأجج الغليان في عروقه..
صعد المنبر.. وانتظر على أحر من الجمر ,انتهاء المؤذن من الاذان، وبدأ خطبته "متخطيا المقدمة المعتادة التي تحتوي على تذكير المصلين بواجباتهم ,بشكل عام نحو ربهم ورسوله.. وفاته ان يبدأ خطبته بالسلام.. وزعق:
يا أهل هذه البلد الكافرة بنعم الله..!! انتم اخوان الشياطين..!!
انتم أبناء زانية تبيع شرفها، في سوق الدعارة..!!
قررتم يا أبناء…. بيع شرفكم للسلطات مقابل قروش لاتسمن ولا تغني من جوع..!!
يا اولاد الخاينة… تريدون تحويل المسجد الى منبر في خدمة السلطات الظالمة مقابل فتات من "نعمها"..!!؟
كانوا متحجرين في أماكن جلوسهم ,كأنهم خشب مسندة..
كأنهم اصنام نصبت في اماكنها منذ أبد الدهر..!!
وبعد ان شعر انه افرغ ما في جوفه من حقد شل كيانهم، وانهم اصبحوا "في يده" نظر في "داخل" عيونهم نظرة الشامت، وقال متشفيا: ان معرفتي الطويلة بكم, أدت بي الى الاحتياط.. والاحتياط -كما تعرفون- واجب.. أريد ان اخبركم اني صليت بكم طوال المدة.. بدون وضوء..!! لأني كنت على يقين, من انكم كنتم تصلون ورائي، من غير ان تغسلوا ضمائركم من الخيانة والخنوع.
نزل عن المنبر وانسحب مغادرا المسجد ,دون ان يصلي ركعتي السنة…!! ولم تطأ قدمه مصطبة المسجد مرة أخرى..!!