مخيم اليرموك: صرخة مدوية تبحث عن ضمير الانسانية

تاريخ النشر: 25/02/14 | 3:30

"رجاءا، رجاءا أنقذونا، فنحن نموت هنا"، هكذا توسلت وفيقة 60 عاما، وهي تنتحب وتخفي وجهها بيديها الجافتين، في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بسوريا.

أقبلت نحونا تجر حزنها، تقبل على أي شخص تعتقد أنه يمكنه أن ينقذها من البؤس الذي تعيشه في المخيم القابع جنوب العاصمة دمشق، والمحاصر منذ ثمانية أشهر.

خلف وفيقة تجمع المئات من اللاجئين يتدافعون خلف حاجز أمني، ويحاول مجموعة من المسلحين منع الحشود من الوصول إلى نقطة توزيع الطعام التابعة للأمم المتحدة، والتي توجد في نهاية طريق ضيق، والذي يمر عبر منطقة معزولة، مهجورة ومدمرة تماما.

إحدى السيدات صاحت في وجهنا "أنا متعبة جدا، متعبة جدا"، ويبدو انها اختارت نفسها لتكون المتحدث الرسمي عن المعاناة التي تعيشها في مخيم اللاجئين.

وتتضح فصول المعاناة من خلال الدموع التي تساقطت من أعين الكثيرين، عجائز مقعدين على كراسي متحركة، نساء منهكة بعيون زائغة، أطفال شاردين من مختلف الأعمار، أجساد الكثيرين تظهر أنهم سقطوا فريسة لسوء التغذية.

أخبرتني احدى النساء أنهم يأكلون الحشائش المسلوقة ويضعون عليها البهارات، وكانت احدى بناتها المستلقاة في عربة صغيرة وردية اللون، في حالة يرثى لها، وارتدت السيدة حذاء أسود لامعا ومعطفا مهترئا، ربما كانا أخر دليل على حياة رغدة كانت تعيشها في وقت سابق.

يبدو مخيم اليرموك مثل منطقة ضربها زلزال، فالمباني المحطمة مليئة بالثقوب وتتدللى من الأسقف قطع الأسمنت والجبس، وبعضها عبارة عن أكوام من الأنقاض.

لكن تبقى هناك كارثة إنسانية ولدت من رحم هذا الصراع، فالطعام أصبح سلاحا لكسب الحرب.

وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)، التي توفر العناية والدعم للاجئين الفلسطينيين، كانت أول من دخلت بأمان إلى مخيم اليرموك، في 18 يناير/ كانون ثاني.

ساعدها في هذا اتفاق هش، وقعته المعارضة المسلحة مع الحكومة السورية والتعاون مع فصائل فلسطينية، سمح بتوصيل كميات محدودة من الغذاء والدواء توزع على اللاجئين منذ هذا الحين.

ويقضي الاتفاق بمغادرة المعارضة السورية المسلحة للمخيم، لتحل محلها فصائل فلسطينية تابعة للحكومة السورية.

لكن مازالت التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالترتيبات الأمنية الجديدة قيد التفاوض، وتبذل الأمم المتحدة جهودا مضنية يوميا لترتيب إجراءات تسليم المساعدات للاجئين، وفي أيام عديدة لا يمكن تسليم أي غذاء.

وفي اليوم الذي دخلنا فيه إلى اليرموك بصحبة الأمم المتحدة، بعد الحصول على التصاريح الخاصة من الحكومة السورية، سلمنا فقط 60 طردا من الغذاء لطوابير من الرجال والنساء.

خلف هذه الطوابير وداخل المباني التي كساها السواد كان يمكن رؤية المزيد من الطوابير لبشر يصرخون ويتدافعون، وكان هناك الآلاف منهم لا يستطيعون حتى بلوغ هذا الممر الضيق للحصول على الطعام.

وفي بعض الأيام كان يشعر البعض بالألم للمعاملة غير الكريمة، ويحتجون لاجبارهم على التجمع في تلك المنطقة الضيقة، بدلا من السماح لهم بالذهاب إلى المباني التابعة للأنروا للحصول على الطعام، والتي مازالت بحالة جيدا نسبيا خاصة من الداخل.

وفي محاولة لبث روح الأمل، زار فليبو جراندي المفوض العام لوكالة الأنروا مخيم اليرموك، ووعد الحشود التي تجمعت حوله، قائلا :"لن ننساكم، العالم لن ينساكم." واستطرد:"نتمنى أن نصل إلى الجميع، إذا سمح لنا من يقاتلون بعضهم البعض بهذا"

وجاءت تلك الزيارة بعد أيام من موافقة مجلس الأمن الدولي على قرار إنساني تاريخي، يدعو جمميع الفصائل المتصارعة إلى رفع الحصار الذي يفرضونه على مناطق مختلفة في البلاد، حيث يتخذون حوالي ربع مليون سوري كرهائن.

وحرص مفوض الأنروا على حمل نسخة من هذا القرار معه أثناء زيارته مخيم اليرموك.

وتقدم بالشكر للحكومة السورية لتقديمها ضمانات باستمرارية الدخول إلى المخيم وتوسيع نطاقها أيضا.

لكنه أكد في الوقت ذاته على أن هناك حاجة للمزيد، "ومع هذا فإن ما يجري يكشف عن نوايا جيدة من جميع الأطراف."

ويعمل مسئولو الأمم المتحدة جنبا إلى جنب مع جمعية الهلال الأحمر العربي السوري، الذي يشارك في غالبية عمليات الإغاثة وتقديم المساعدات عبر الأراضي السورية.

وعلى الرغم من أن بارقة الأمل التي يمنحنا إياها مخيم اليرموك، إلا أنه مازال يجسد الواقع المظلم والعنيد للحرب.

شيد المخيم في البداية ليكون ملاذا للفلسطينيين المهجرين من حرب عام 1948 بين العرب وإسرائيل، وفي عام 202 تحول إلى ميدان للقتال العنيف، عقب دخول المعارضة المسلحة، التي تسعى لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد إليه.

في البداية ترك عشرات الآلاف من الفلسطينيين المخيم الذي كان يمثل أكبر تجمع لهم داخل سوريا، حيث كان يعيش فيه حوالي 180 ألف لاجئ.

لكن بعد أن نجحت القوات الحكومية في حصار المخيم الذي تسيطر عليه قوات المعارضة، في يوليو/ تموز من العام الماضي، لم يتمكن حوالي 20 ألف من الخروج وأصبحوا بمثابة رهائن وبينهم سوريون أيضا.

وبينما كنا نهم بالرحيل قابلنا الطفل كفاح، 13 عاما، والذي ينتظر مغادرة المخيم مع شقيقتيه الصغيرتين، وقال بوجه يظهر الشجاعة:"الحياة جيدة، عادية."

وبعد ذلك ذكر لنا معاناته مع الجوع، وأضاف:"نجوع قليلا"، وفجأة غالبته دموعه التي انهمرت من عينيه :"لا يوجد خبز"، ومع بكائه عجز لسانه عن الحديث.

وفي طريقنا للخارج رأينا أيضا وفيقة، 60 عاما، والتي نجحت في الخروج من المخيم، وأخبرتنا وهي تقبض بقوة على قطعة خبز: "لقد خرجت من الجحيم، أنقذونا من تناول العشب."

لكن مع هذا مازالت العجوز، لا تشعر بالأمان، وتخشى على أبنائها الخمسة وبناتها الأربع وأحفادها السبعة، "مازال ثلاثة من أبناءي في المخيم."

اليرموك هو مجرد نموذج صغير للحرب الكبيرة التي تدور في سوريا، لكنه يقدم صورا واضحة للكارثة والدمار، ويطلق رسالة استغاثة مدوية تحثنا على ضرورة البحث عن مخرج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة