حليمة (3)
تاريخ النشر: 13/04/17 | 3:24حاولت حليمة بعد موجة بكاء خالٍ من نحيب مسموع لئلا تزعج الست بديعة، ان تستعيد قواها وتتمالك نفسها. تناولت منديلا ورقيا لتجفيف دموعها فحانت منها التفاتةٌ الى الحائط المقابل لسريرها، فرأت منظرا هزّ مشاعرها… لقد رأت صورة مريم العذراء التي كانت معلقةً هناك، فتذكرت دير راهبات الزَوَرَه في حيفا ومدرسةَ راهبات المحبة وزميلاتِها من الطالبات المسيحيات اللواتي كنَّ يردّدن في طابور الصباح، الصلاةَ المريميةَ: “السلام عليك يا مريم، يا ممتلئة نعمةً، الربُ معكِ، مباركةٌ انتِ في النساء…”، كما تذكرت جدَّها الورع الحاج ابو مصطفى ومداومتَه على قراءة القران الكريم، واستشهادَه بسورة مريم وبسورة آل عمران كلما اراد ان يردّ على بعض المتزمتين التكفيريين، حيث كان يردّد بصورة خاصىة الآيةَ الكريمة: “وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين”. شعرت حليمة بهدوء نفسي، فغطّت في سباتٍ عميق حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي.
هبّت حليمة من سريرها. سارعت الى غسل وجهها واستبدال ملابسها. اندفعت نحو المطبخ لمباشرة عملها كخادمة، إلا انها فوجئت بالست بديعة وهي تدعوها لتشرب معها قهوة الصباح التي اعدّتها بنفسها. شعرت حليمة بالإحراج، لانها ظنت “وبعض الظن إثم”، ان تصرف الست بديعة يحمل في طياته، رسالةَ عتابٍ او تأنيب لها لاستغراقها في النوم وتقصيرها بواجبها كخادمة. لكن هذا الشعور ما لبث ان بدّدته ابتسامةُ الست بديعة، واصرارُها على ان يصبح إعدادُها لقهوة الصباح، ودعوةُ حليمة لمشاركتها ولمسامرتها، روتينا يوميا، مما رفع الكلفة بينهما وازال الحواجز التي تفصل عادة بين المشغَّل والمشغِّل ناهيك عن خادمة البيت وسيدته، كما أنه وفّر لكل منهما فرصةَ التعرّف بعمقٍ على الاخرى.
عرفت حليمة ان الست بديعة هي ايضا حيفاوية الجذور، من مواليد سنة 1906 وان اسمها قبل الزواج هو بديعة فضيل صيقلي، وانها تعلمت في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا، ثم ارسلها والدُها الذي كان إنسانا واعيا مستنيرا، الى بيروت سنة 1925، لمتابعة دراستها الجامعية، وهناك تعرفت على شاب ارمني اسمه إيزاك، فتوّجا علاقتَهما سنة 1930، بزاوجٍ نالَ بركة الاهلين في حيفا وبيروت، لينجبا بعد سنتين ابنتهما البكر جانيت، متمنين ان تكون باكورةً لاخوة واخوات. لكنّ القدر عصف بامنياتِهما فتوفي إيزاك بعد مرض عضال لم يمهله طويلا، تاركا لها طفلةً في الثانية من عمرها، ومصادرَ دخلٍ تضمن لها ولإبنتها جانيت، العيشَ بكرامة، ممّا جعلها تُحجِمُ عن الزواج ثانية، رغم العروض الكثيرة، وتكرّسُ وقتَها في رعاية إبنتها وفي التطوع لنشاطاتٍ اجتماعية، فبرزت كأمٍّ متفانية وكسيدةِ مجتمعٍ لها مكانتُها رغم صغر سنها نسبيّا.
لطفُ السيدةِ بديعة وحُسنُ معاملتها الذي ارتقى الى مستوى مناداة حليمة: “يا بنتي”، قد أسرا حليمة فلم تفكر بالبحث عن عمل آخر يضمن لها مستقبلا مغايرا. لقد ربطت حليمة مصيرها بمصير بيت الست بديعة، سيما وقد وجدت فيه مأوى آمنا وعملا شريفا وسيدةً جسدت بشخصِها المميزِالجدّةَ الحانية والامَ الرؤوم والاختَ المحبة والصديقةَ الوفية. لقد تفانت حليمة في خدمة الست بديعة وقاسمتْها مسؤولياتِها في رعاية كريمتها جانيت، كما شاركتها فرحتها بتخرج جانيت من الثانوية وفيما بعد من الجامعة ايضا، ناهيك عن خطوبتها وزواجها سنة 1956 من المهندس الميكانيكي أنيس ملحم الذي كان يعمل مديرا لوكالة سيارات معروفة في بيروت، وولادة ابنائهم الثلاثة: ناصر وجول وجَمَال، بفارق سنتين بين ولد وآخر. وفي خضم هذه الاحداث المتتالية، كان الزمن يمرُّ على حليمة بصورةٍ ممتعة لا ينغّصها سوى تساؤلٍ كان يراودُها دائما: “هل سأحظى يوما ما برؤية بناتي الثلاث أو على الاقل واحدة منهن ؟”. غير ان حليمة لم تدع لهذا التساؤل ان يزيل او يُبْهِت إحساسَها بالرضى عمّا يحيط بها، او ان يكفّ بصرَها عن رؤية السعادة العارمة التي كان يشعُّ بها وجهُ الست بديعة. هذه السعادة التي ما لبثت ان تلاشت يوم علمت بديعة وحليمة ان الشركة التي يعمل فيها أنيس، قررت عشية الحرب الاهلية في لبنان سنة 1975، إغلاقَ فرعها في بيروت، ونقلَ انيس للعمل في مونتريال وتوفير مسكن له ولعائلته هناك….
كان وداع الاحفاد ووالديهم جانيت وانيس، مؤلما جدا فابكى كلَّ من كان حولهم في مطار بيروت. لقد ترك هذا الموقف في قلب الست بديعة جروحا نازفة أبت ان تندمل كما احدث تغييرا في نمط حياتها، فاقبلت على تدخين النرجيلة بنهم غير مألوف لديها. أصبح ” نَفَسُ” قهوةِ الصباحِ حلقةً اولى في سلسلة من “الأنفاس” تستمر حتى ساعات الظهر، اما ” نَفَس” نرجيلة ما بعد العشاء فقد يستمر متجددا حتى يرقّ الليل. هذا الوضع اثار قلق حليمة، فحاولت بما لها من دالة على الست بديعة، ان تثنيها عمّا هي عليه، لكن تدخلها لم يجدِ نفعا، فاستسلمت صاغرة لهذا الواقع المرّ، وهي تدعو للست بديعة بالسلامة من تبعات آفة التدخين…لكن حليمة عندما لاحظت بعد بضعة اشهر، ان الست بديعة اخذت تعاني من التهابات رئوية متكررة، ومن ضيق في التنفس، ومن سعال يشتدُّ يوما بعد يوم، قررت ألّا تسكت اكثر، ففرضت على الست بديعة ان ترافقها الى طبيبٍ مختصٍ أمَرَ بتحويلها فورا الى المشفى لإجراء الفحوصات الطبية اللازمة…فكان الجواب سرطان رئة!!
إبتدأت رحلة العذاب، فمن فحصٍ الى آخر ومن علاج الى سواه ، ممّا اقتضى تنقلا مصحوبا بالمخاطر في فترة انفلات امني في بيروت، وتطلّب تكاليفَ ماديةٍ باهظة في غياب تأمينات صحية. هذه التكاليف استنفدت مدّخرات الست بديعة وارهقت مصادرَ دخلها، واحرجت ايضا الامكاناتِ الماديةِ لإبنتها جانيت التي عادت من كندا لتكون الى جانب والدتها، لكنها(اي جانيت) وقفت عاجزةً عن تقديم مزيد من العون المادي لوالدتها. هذا الوضع اقتضى بيع شقة الست بديعة بسعرٍ منخفض فرضتْه الاوضاعُ اللبنانية غير المستقرة آنذاك، لتغطية تكاليف العلاج…
خسرت الست بديعة معركتَها مع المرض اللعين، فتوفيت سنة 1976 بين يدي حليمة وجانيت اللتين بكَتاها بكاء مرا. شعرت حليمة ان عالمها قد إنهار مرة اخرى فوق رأسها. فها هي تعود الى المربع الاول الذي كانت فيه قبل نحو ثلاثة عقود: يتمٌ وترمل وثكل وتشرد وعوز مادي… لقد كانت تتساءل: “ما العمل؟ اين سأسكن؟ ومن يقبل ان يشغّلني الان وقد اصبحتُ في الخمسين من عمرى، ولا مهنة لي؟ وهل سانجح يوما في تحقيق امنيتي بلقاء بناتي؟”.
فهل ستجد حليمة إجاباتٍ لتساؤلاتِها ؟ ساتحدث عن ذلك في الجزء الرابع والاخير، يوم الجمعة القادم. فالى اللقاء….
د. حاتم عيد خوري