مؤتمر الجبهة بين ناصرة وشام
تاريخ النشر: 09/04/17 | 2:32تعقد الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة مؤتمرها التاسع في ظروف عامة غير مستقرة وواقع سياسي محلي يضج بالمخاطر الكبيرة والغموض المنهك، فإسرائيل تطوي فصلًا من تاريخها القصير بعصبية وصخب، وتتقدم نخبها الجديدة نحو القمم برايات يمينية ودينية وعقيدة لا تخفي بواطنها ولا شهيّتها لبلع دولة فصلّها رب السماء من أجلهم، وبمقاسات وعد- حين كان النهر وسادة لأحلامهم، والبحر مرفأ النشوة، والسيف مرساتهم.
بعض المعاقل التقليدية ما زالت تقاوم زحف أبناء كهانا واخوة ليفنجر وليس أمام هؤلاء إلا السقوط أو الالتحاق بمراكب النار وجندها التي ضمت هضاب يهودا وتلال السامرة إلى السواحل فشكلوا عمليًا دولة تقف على ردفيها لا تعنيها شرائع الأمم ولا خرائط اعترفت، على حين هدنة، بالخط الأخضر الذي لوّنه، قبل عقود، من يزرع الآن هذا الشرق بالموت ويغرقه بالأحمر .
إنه واقع جديد يضع الأقلية العربية أمام تحديات جسيمة لم نألفها في الماضي، وذلك على الرغم من سياسات القمع والاضطهاد العنصري الذي مارسته، منذ اليوم الأول ، جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بحق الجماهير العربية التي بقيت في وطنها، فوفقًا لهؤلاء وجودنا بينهم ليس شأنًا مفروغًا منه، وبالطبع لن يكون حقًا سابقًا وأوليًا، فهم هنا وهناك في الدولة اليهودية “بقوة الحق”، وإن كان لا بد فسيحمون ذلك “الحق” بالقوة!
كثيرون يعقدون آمالًا واسعه على مؤتمر الجبهة وينتظرون منه مخرجات استثنائية وقرارات مسؤولة يرجى أن تعكس فهم المؤتمرين لحقيقة المرحلة واستعدادهم لبدء فصل جديد تسعى من خلاله الجبهة إلى استعادة المقاود والقيادة التي ضاعت منها في مهب السنوات العجاف المنقضية، وذلك كخطوة أولى على طريق الشروع في بناء تحالفات سياسية عربية عربية وعربية يهودية وتكوين أوسع جبهة وطنية وشعبية لمواجهة ما ينتظرنا من ضربات وقمع.
من الواضح أن الخطر الأكبر الذي يستوجب الاستعداد لصده منبعه من حكومات إسرائيل العتيدة التي ستسعى بإمعان إلى تفتيت وجودنا وسلب ما اكتسبناه من حقوق وشرعية خلال سنوات نضالنا الفائتة؛ لكنه لن يكون ذلك هو الخطر الوحيد، فأوضاع مجتمعاتنا العربية الداخليه وما تشهده من انفلات وحشي لمظاهر العنف على أشكاله وتداعي متاريس القيم التي حمت في الماضي تشكيلاتنا السياسية وصانت بنانا الاجتماعية الجمعية من استشراء الفساد وسطوة المصالح الذاتية والاستهلاكية، تشكل، من دون أدنى شك، خطرًا موازيًا للأول، ويستدعي بدوره إقامة تلك التحالفات على قواعد سياسية واضحة وكفيلة بتزويد الشركاء بطاقات ثابتة وبقوة دفع مؤثرة.
في الواقع أكتب ذلك من باب التمني والأمل وكلنا يشهد كيف ضعفت الأحزاب السياسية العربية وانحسر تأثيرها الفعلي في شوارعنا، لا بل نراها قد غابت بشكل كلي في كثير من المواقع تاركة الساحة والميدان للفراغ المفسد أو لصناع الدموع والحسرة والألم.
ومع أنني مقتنع أن مهمة الترميم صعبة جدًا، ولا أقول مستحيلةً، لكنني أتصور أن الفرصة ما زالت قائمة وأخص في هذه الجزئية حزبي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والتجمع الوطني الديمقراطي ( وعنه سأكتب في مقالة أخرى) وذلك لتملكهما مؤسسات قائمة وآليات تنظيمية ملزمة وتاريخًا من العمل الجماهيري المشهود له- خاصة الجبهة الديمقراطية ذات الماضي العريق والنضالات البارزة والمميزة وقياداتها التاريخية لمعظم المحطات المفصلية في حياة الجماهير العربية في إسرائيل .
مهمة الجبهويين ليست سهلة، لكنها ستكون معقدة أكثر بعد إطلاق آخر هجمة من بعض الرفاق ضد النائب أيمن عودة الذي اختير ليكون رئيسًا للقائمة المشتركة في الكنيست وقبلها شغل منصب الأمين العام للجبهة الديمقراطية، وذلك على خلفية لقائه قبل أيام في باريس مع القيادي اللبناني السيد وليد جنبلاط وبحضور السفير الفلسطيني السيد سلمان الهرفي.
من الأصوات التي هاجمت النائب عودة برز موقف النائب السابق والقيادي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي ورفيق النائب عودة في الجبهة الديمقراطية السيد عصام مخول الذي حذر قائلًا: “عودة يعي أنه غير قادر على أن يسبغ أية شرعية على وليد جنبلاط وسياساته المشبوهة في المنطقة، لكنه يستطيع أن يسقط الشرعية عن نفسه هو بأسرع مما يتوقع”.
كلام يعادل تهديدًا واضحًا، وفي نفس الوقت يلزم المشاركين في مؤتمر الجبهة أن يتخذوا موقفًا من هذه المسألة، فشرعية القائد لا يسبغها فرد ولا يحجبها إلا معطيها، وفي حالة النائب عودة هي من صلاحيات المؤتمر العام الذي سينتظر كثيرون قراره .
إنها مسألة ذات أبعاد كبيرة، فخلفية مهاجمة مخول وآخرين للقاء عوده بجنبلاط هي بالأساس نتيجة لموقف جنبلاط من المسألة السورية، وبالتحديد من نظام بشار الأسد، فهذه المسألة أدت إلى شق صفوف الجبهة والتجمع الديمقراطي وتكوين معسكرين داخل كل حزب منهما، معسكر يدعم الأسد ومسوغاتهم كون نظامه نظامًا ممانعًا ومقاومًا، وضدهم يقف فريق يتهم الأسد بكونه دكتاتورًا عاتيًا يقتل أبناء شعبه من غير حساب، ولذلك إذا نجح المؤتمرون بحسم موقفهم من هذه المسألة ستتلوها تداعيات تتعدى قضية جنبلاط، وسيكون لها معان كبيرة خاصة في هذه الأيام المأساوية التي ملأت فيها صور جثث ضحايا القصف بقنابل الغاز الكيماوي شاشات الفضائيات وقلوب البشر بالحزن والأسى.
في تقديري لن تحسم هذه القضية في المؤتمر، وقد يكون لها ملاحق أخرى، فأيمن عودة ذهب لمقابلة السيد جنبلاط بعد أن استأنس برأي قيادات جبهوية مسؤولة وحزبية، وهذه لم تبد معارضتها، بل وافقت على المبادرة وباركتها، هذا علاوة على أن كثيرين يقاربون هذا اللقاء بلقاءات قياديين في الجبهة والحزب الشيوعي مع قيادات عربية وغيرها موازية للسيد جنبلاط أو أقل أهمية منه، ولم تستجلب تلك اللقاءات هجمات مشابهة لتلك التي يتعرض لها النائب عودة من حين لآخر، فالسياسة قلّابة ودوّارة، والعبرة في المضامين والخواتيم وليس في الأهواء والموقف من هذا الزعيم في لحظة معطاة أو ذاك؛ ثم إن أصواتًا متزايدة في صفوف الجبهويين بدأت تتحفظ من حصر بناء علاقات الجبهة مع جهات أخرى وفقًا لموقف تلك الجهات من بشار الأسد فحسب، وحجة هؤلاء تقضي بأن الأولى بالشيوعيين والجبهويين الوقوف إلى جانب الشعب السوري وليس إلى جانب القائد الذي قد يكون عاجزًا، في أحسن الأحوال، عن منع وقوع مأساة، تفاصيلها ملتبسة، كما في حالة المجزرة الأخيرة، هذا إذا لم يكن هو جزء من المأساة والمحنة التي تعيشها البلاد ويدفع ثمنها الشعب .
هنالك من يرى أن استعادة قوة الحزبين، الجبهة والتجمع، على أسس صحيحة ستكون من مصلحة الجماهير العربية، لكننا لم نلمس خلال الأشهر الأخيرة بذل محاولات جدية من قبل مؤسسات هذين الحزبين في هذا الاتجاه، بل على العكس شهدنا كيف تزايدت الصراعات الشخصية الداخلية واشتدت حتى تباعدت فرص الخروج من الأزمات المزمنة وكادت تتلاشى، ففي الواقع تكمن مشكلة هذين الحزبين ، إلى حد بعيد، بسبب وجود فائض من مدعي القيادة وفي استعداد بعضهم، إذا ما موضعوا في الصدارة، نسف الجسور وتخريب القلاع .. ولسان حالهم يقول: بعدي الطوفان!
إن غدًا لناظره قريب، لا وقت للقمار ولا هوامش للمجازفة، فلقد قلنا مرارًا : سيبقى ميداننا هنا، في الناصرة والطيبة والرملة وكفرياسيف، وعليه فكل من سيطرب لسماع صدى زئير أسد كاسر وغريب ويؤْثره على شجى البلابل في حاراته لن يكون جديرًا بالبيت ولا أن يمشي في مقدمة المسيرة، لأنه لن يكون قادرًا على حماية البيدر وضفائر الحرائر التي نراها تسقط تباعًا من حولنا.
أمام مؤتمر الجبهة التاسع فرصة تاريخية، فإذا أصاب المؤتمرون ونجحوا بلمّ شملهم فقد يبزغ برعم لأمل جديد، وإن تخاصموا على حساب الشام وأسد وبسبب لقاء يعتبره البعض اشكاليًا فعندها..لكل حادثة حديث .
جواد بولس