شعراء في واجهة النقد
تاريخ النشر: 03/03/14 | 22:50سأتناول في هذه المقالة الموجزة ثلاثة من الكتب التي تصلني: كتاب ضخم بعنوان "شفيق حبيب في مرايا النقد" وهو لمجموعة من الناقدين والدارسين محليا وعربيا: يحيى زكريا الآغا، نادي ساري الديك، طلعت سقيرق، محمد علوش، منير توما، نبيل عودة، محمود مرعي، فاروق مواسي، رنده زريق صباغ، بطرس دله، شاكر فريد حسن، دالية بشارة، ونور عامر.
في هذا الكتاب إضاءات من زوايا مختلفة على أعمال الشاعر شفيق حبيب، والأبرز في هذه السياقات اهتاما ومساحة ما كتبه الآغا، حيث أضاء بالنقد والتحليل ثلاثة من دواوين الشاعر، وعلى مساحة تقارب ثلث الكتاب، ركز في معظمها على مواقف الشاعر الوطنية، وعلى الأسلوب والفكرة والبناء، والنقلات النوعية في شعره.
أمّا باقي المقالات فقد اتسم بعضها بالموضوعية والعمق، وبعضها لامس السطح دون الجوهر؛ بيد أن الكل قد أجمعوا بمصداقية هذا الشعر في المستوى الرفيع.
أنا أجّل هذا الرجل شفيق حبيب، كونه أعطى لشعبه من عصارة فكره. ومع ذلك لا أزعم أن شعره -قرأتُ الكثير مما كتب- يخلو من كلمة ناشجزة هنا، أو كَبْوةٍ هناك، وهذا يحدث لفحول الشعراء، ومثالنا النابغة الذبياني، من أخطائه في عيوب القافية ما يسمى "الإقواء"، وهو اختلاف حركة الرويّ (المجرى) بكسر وضمّ. وهذا غير جائز، كقوله:
"سقط النَصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطه/ فتناولَتْه واتّقتنا باليدِ/ بمخضّبٍ رخصٍ كأنَّ بَنانه/ عَنمٌ يكادُ من اللطافة يُعْقَدُ" (1).
هنا اختلفت حركة الرويِّ بين كسرِ الدال وضمِّها..
خلاصة القول: شفيق حبيب جدير وبحق بهذا الإهتمام من النقاد؛ واني على يقين أنه من الشعراء القلائل الذين أثروا حركتنا الأدبية فكرا تاريخا وأصالة. وان كان بعض الشعر قد عاش منذ ألف عام ولا يزال حضورا وفخرا، فإن أدب شاعرنا شفيق حبيب -حسب تقديري- سيحظى هو اللآخر بهذه المنزلة وهذا الحضور.
(1) العَنَم: شجر له ثمرة حمراء يُشّبه بها البنان المخضوب.
*غزليات كمال ابراهيم
اني لأستغرب قليلا من غزارة الإنتاج عند الشاعر كمال ابراهيم، فما نكاد نمر بديوان من دواوينه الشعرية حتى يلحقه بآخر! وإن دل هذا على شيئ فإنما يدل على واحد من أمرين: أن يكون الشاعر من هواة الكم، أو نتيجة لنشاط عقلي وشعوري.
تراني متردد بالقول: بين يديّ ديوانه الأخير "غزليات" فقد يطلع علينا بديوان آخر قبل نشر هذا المقال، فأقعُ في حرج!
ثلاثون قصيدة غزلية في ديوانه آنف الذكر تتمحور كلها حول المرأة جسدا روحا اشتهاء. أمّا عناوين هذه القصائد فتفسّر أن الشاعر من عشاق التغيير والتبديل، لا يقف عند امرأة بعينها، بل يود ما كثر وتنوع من بنات حواء، يعشق بالجملة! فهذه القصيدة "إلى جليلية" وهذه "الى كرملية"، ويتابع" الى محجبة، الى آنسة، الى جبلية، الى جولانية، الى مهاجرة، الى مغربية".
وهلمّ جرّا؛ رحالة في بلاد العرب ينشد الحب والوصال، يريد دائما المرأة الدافئة الجميلة، وجمال الأنثى هو المقياس الأول في نظره؛ لكن هناك من يقلل من أهمية الجمال كقول احد الشعراء:
"ليس الجمال بِمئزر ــفاعْلمْ وإن رُدّيت بُردْا"
ربما أن هذا الشاعر اطمئن الى الحديث: "ليس هناك فتنة أضّر على الرجال من النساء".
وفي خضم هذا الإندفاع العاطفي لكمال ابراهيم، تارة تجده هادئا متزنا كقوله:
"اهديكِ يا حبيبتي/ أبيات شعر/ مكللة بالشوق والحنين/ أبعث إليكِ/ باقة ورد/ معطرة بالفل والياسمين".
وتارة أخرى تراه ينفعل تاركا لعاطفته العنان:
"حبيبتي اليكِ الشوق اعبد/ سحرك لقلبي ثائر/ أنتِ مبتغاي وشهوتي/ وشوقي اليكِ ليس له بدائل".
القارئ فضولي في قراءته، لذلك قد يطرح السؤال : لماذا هذا الحضور المتعدد للمرأة في قصائد الشاعر؟!
ربما لأن الشاعر قد تأثر جداً بنزار قباني؛ ولا ضيرَ ايضا أن نستعين بعلم النفس الذي يؤكد أن ثقافة المجتمع تؤثر في طرق تفكير أفراده، وطرق تعبيرهم عن انفعالات وعواطفهم.
في الحقيقة أن عاطفة الشاعر هي الركيزة التي يبني عليها نصوصه، والقارئ بِفطرته يرتاح الى المناخ العاطفي، وسينسجم مع الكلمات الرنانة في قصيدة " الى جولانية " كمثال، لذلك لن يفطن غالبا بأن الشعور يكاد يتخثر في هذه القصيدة؛ والشعر ينبع أساسا من الشعور كما هو معلوم.
في قصيدة "الى مغربية" حبذا لو أن الشاعر التفت الى ما يُعرف بنكهة الشعر:
"عرفتكِ/ مغربية الأصل/ فتانة الحسن والمنظر/ ممشوقة الطول/ نحيلة الخصر/ تسلبين النظر".
من المؤكد أن بعض القراء سيجدون متعة في الكثير من قصائد الديوان، وقد لا يعبأ بها قراء اُخر، وهذا أمر طبيعي في الشعر بعامة، فليس هناك من شاعر استطاع إرضاء جميع الأذواق.
ويبقى السؤال: الى أي مدى وصل كمال ابراهيم في غزارته الشعرية ؟
دعونا ننتظر رأي الجمهور، لأن الجمهور كان ولا يزال طرفا رئيسيا في أية معادلة أدبية.
* عناد جابر في عواصف الحنين
ومسك الختام مع الشاعر عناد جابر في ديوانه الثالث الأخير "عواصف الحنين". لم أبعثر وقتي هباء مع هذه الأوراق الخصبة. والحق أن قصيدة " كيف نعود " تركت وقعا طيبا في نفسي بألفاظها وواقعيتها وصداها، قصيدة تصرخ، تجأر:
"وكيف نعود؟/ لمرايا كانت تعرفنا/ لجذور كانت ترفدنا/ كيف؟/ وقد صرنا سجناء/ في عصر جليد/ يسحق فينا الروح"
وينتهي جابر بقصيدته الى حالة مؤسفة مؤلمة تعكس ما آلت اليه أوضاع شعبنا من إحباط وفراغ:
"لم يبق لنا شيء آخر/ سوى أوقاتنا المكتظة/ بالفراغ/ وأجسادنا الآلات/ ونفوسنا الخاوية/ إلا من زحمة النزوات/ فكيف نعود؟!"
في هذه القصيدة ملمح من ملامح المذهب الواقعي، وهو الأدب الذي يدعو الى الاتصال بالحياة، ويصف الأشياء طبق الواقع مع العناية باللفظ.
وإن كان الشاعر قد أولَ هذه القصيدة اهتماما بالغا، فلم يفته أن المتلقي يتطلع الى التنويع، فأخذنا الى موضوع مغاير تماما:
"ليس ذنبي أنّ عطري/ قد غزا طيّاتِ ثوبكْ/ وحكى أنّا التقينا/ فابتدا كابوسُ رعبِك/ كلّ ما في الأمر أنّي/ حينما ملتُ لجنبك/ طارَ من ذقني وعلّا/ وارتمى في دفء عبّك"
رائعة ولطيفة طريقته في التعبير؛ وشتان ما بين هذه الجميلة ومقطوعة بعنوان انطلاق: "ونحن حين نلتقي/ نُبطل قانون الجاذبية/ نخرجُ/ من دائرة الوقت/ ومن هوية المكان/ ونفلتُ/ من قفص الأبجدية"
جافة يا صديقي، كأنها نبتت على صخرة!
وفي ديوان جابر الكثير من شعر المناسبات في المدح والرثاء؛ وهذا الشعر يحتاج الى خبرة وتجربة، وأن يعرف الشاعر كيف يدخل في الموضوع، وكيف يخرج منه دون أن يفتح شهية المستمع لإبداء الملاحظات…
من الواضح أن الشاعر يجيد هذا اللّون من الشعر سبكا وتأثيرا، ومن الواضح أيضا أنه يميل الى الأنماط السالفة في شعر المناسبات، الى أعمال الشعراء القدامى التي تأثر بها شعراؤنا، ربما لشهرتها وجمالها.
والدليل على تأثر جابر بالشعر القديم هو نزوعه للنسج على ايقاع شعر الملاحم والحروب، كقوله في تكريم مدير احدى المدارس:
"فهم الأشاوس ما تلين قناتهم" وفي موضع آخر "جردتَ سيفك صارما ومشعشعاً".
لقد شبه القلم بالسيف ومنحه منزلة عالية، وهذه وجهة نظر صائبة ؛ فبدون ثقافة لا تكون حضارة!
وفي قصيدة رثاء يقول جابر:
"أعدنانُ إنّ الحياةَ لجسر _ وما العمرُ إلاّ سريعُ انقضاءْ"
ليست المهارة في المعنى، فالمعاني مطروحة في الطريق، كما قال الجاحظ. إنّما المهارة كَونْ الشاعر ألْبَسَ المعنى لفظاً جديداً ؛ لكن الفكرة مطروقة، قال نابغة بني شيبان:
"وكلُّ امرئٍ إنْ صحَّ أَو طالَ عُمْرُهُ _ إلى ميتةٍ لا بُدَّ سوف يَصيرُ"
استحسنتُ قول عناد جابر في رثاء زميلة له:
"يا سعدَ قبرٍ ضَمّ في ظلماتهِ _ ريحانةً يزهو بها الرَّيحانُ"
وماذا نقول بعد، سوى أن هذا الديوان يستحق التقدير لغةً أسلوباً وفناً.