المسؤوليّة تتطلّب الحكمة لا السّلطة!
تاريخ النشر: 04/03/14 | 7:31في يومٍ ربيعيٍّ مشمس جميل، توجّهتُ لصرح من صروح العلم والعطاء في مجتمعنا؛ وكان هذا الصرح إحدى مدارسنا الثانويّة في الجليل الاشمّ، أمّا بناية المؤسسة فكانت عبارة عن بناية تراثيّة قديمة تحيطها الأشجار الخضراء الباسقة!
كنتُ في السنة الأولى في منصبي الجديد؛ مفتّش اللغة العربيّة، وأشعر بنوعٍ من الانفعال لانتقالي من التدريس للتفتيش، ولمقابلة المدرّسين الذين عرفتهم زملاء قبل تسلّم الوظيفة الجديدة!
قضيّة أخرى كانت تشغلني: كيف سأتعامل مع مدرّسين أكبرَ منّي سنًّا، ولهم باعٌ طويل وتجربة غنيّة في تدريس لغة الضاد!
وصلتُ المدرسة، فاستقبلتني المديرة بوجه بشوش، وبعبارات الترحيب المألوفة، ودعتني لمرافقتها لغرفة الإدارة، فتقدّمنا حتى دخلناها واتّخذ كلٌّ منّا مجلسه.
بعد التحيّات التقليديّة، وتقديم واجب الضيافة (المتمثّل في احتساء فنجان قهوة!)، بدأ الحديث حول وضع تدريس اللغة العربيّة في المدرسة؛ من هم مدرسّو الموضوع، عدد حصص اللغة العربيّة لكلّ صفّ، الخطّة السنويّة للمعلّمين، التحصيل والنتائج، خاصّة نتائج امتحانات التوجيهيّ/ البجروت للطلاب التي كانت جيّدة، وبالذات نتائج الصفوف التي درّسها المعلّم سامي (اسم مستعار!).
سررت من النتائج الجيّدة وتمنيّت تحقيق مثل هذا التميّز لجميع طلاب المدرسة
ولدى جميع معلّمي اللغة العربيّة فيها.
استفسرتُ عن وضع مكتبة المدرسة، محتوياتها، عمل أمينة المكتبة، مدى إقبال الطلاب على ارتيادها واستغلالها… وكانت إجابات المديرة مطمئنة واثقة، واقترحت أن نقوم بزيارة المكتبة للاطّلاع عن كثب على سيرورة تفعيل المكتبة، وبالفعل زرنا المكتبة وشاهدنا ما تحويه من مصادر ومراجع وكتب متنوّعة، وكيفية استغلال المكتبة بصورة ناجعة ومُرضية بإرشاد وتوجيه أمينة المكتبة المختصّة.
بعد ذلك، وبالتنسيق مع المديرة وبمرافقتها توجّهتُ لزيارة المعلّم سامي ذي الأقدميّة الكبيرة، والتجربة الغنيّة، لمشاهدة حصّة من حصصه.
استقبلنا المعلّمُ سامي على باب غرفة الصفّ، حيّيْناه فردّ التحيّة بمثلها، ولمّا أخبرناه أنّني جئتُ للاستمتاع بمشاهدة حصّة من حصصه، قال لي والقلقُ بادٍ على محيّاه:
أستاذ محمود، أرجوك أن تؤجّل هذه الزيارة لموعدٍ آخر، فأنا أشعر ببعض الضيق والإعياء!
أجبتُه بصوتٍ هادئ، ونبرة ودّية:
عافاك الله! إنّي أحترم رغبتَك، وأقبل اقتراحك، وإن شاء اللهُ سأزورك في المستقبل!
عُدتُ مع المديرة لغرفة الإدارة، فاعتذرتْ لي عمّا حدث، وحاولت المديرة أن "تدافع" عن المعلّم المذكور قائلةً:
إنّ المعلّم سامي ملمٌّ بموضوعه، متمكّن من المادّة، يتذوّق الأدب ويبدع فيه، وطلاب المدرسة "يعشقون" دروسه الممتعة!
لكنّي أكّدتُ لها أن لا داعي للاعتذار، فمثل هذه الحالات طبيعيّة قد تحدث، وأنا أعرف المعلّم وسعة اطّلاعه وذائقته الأدبيّة الرفيعة، وأسلوبه المحبّب في الحديث والحوار..، وأنا أتفهّم وأقدّر شعور المعلّمين!
بعد ذلك قمتُ بزيارة معلّمٍ آخر في المدرسة، وشاهدتُ حصّة في تدريس نصٍّ أدبيّ في الصف العاشر.
بعد انتهاء الحصّة جلستُ مع المعلّم وناقشنا ما شاهدتُ؛ أثنيتُ على الجوانب الإيجابيّة التي لمستُها في أداء المعلّم: التحضير المفصّل، المعرفة الجيّدة بالاستعانة بالمراجع، ومستوى الطلاب وانضباطهم، وأشرتُ إلى الجوانب التي تحتاجُ إلى المزيد من الاهتمام والعناية مثل: ضرورة إشراك الطلاب وتفعيلهم بصورة أفضل، وذلك يتمّ بطرح الأسئلة الجيّدة (حول المضمون والشكل)، وتشجيع الطلاب على إبداء آرائهم المعلّلة. كذلك أشرتُ إلى ضرورة الابتعاد عن إصدار الأحكام النقديّة المطلقة وإملائها على الطلاب!
بعد ذلك، غادرتُ المدرسة وأنا راضٍ تمام الرضا عمّا سمعتُ وشاهدتُ وناقشتُ، وعدتُ لمكتب وزارة التربية والتعليم الذي كان في شارع بولس السادس في الناصرة.
مرّت أيّام وأسابيع بعد تلك الزيارة، انخرطتُ في العمل وزرتُ العديد من المدارس، وبدأ المعلّم سامي يتّصل بي هاتفيًّا يطلب زيارته لمشاهدة حصّة أو أكثر، وتكرّرت اتصالاته معربًا عن أسفه واعتذاره لما بدر منه، فقد اعترف أنّه لم يكن يوم الزيارة
مريضًا أو متعبًا، بل كان ذلك ذريعة للتملّص؛ لأنّه ظنّ، وبعض الظنّ إثم – هكذا قال – أنّي قصدتُ من زيارته "الانتقام" منه على بعض المواقف التي كان قد أبداها تجاه وزارة التربية والتعليم بخصوص عمل إحدى اللجان، ولكنّه بعد أن سأل واستفسر وتحرّى اكتشف – هكذا قال – أنّه كان مخطئًا في ظنّه، وتحقّق أنّني مفتّشٌ موضوعيٌّ يهمّه التعاون مع معلّمي الموضوع والتشاور معهم وتوجيههم ودعمهم بهدف إعلاء مكانة اللغة العربيّة، وتحسين تحصيل الطلاب وتحبيبهم بقواعدها وبآدابها.
وفعلا، بعد ذلك، تمّ تعيينُ موعد جديد للزيارة، وتسنّى لي مشاهدة حصّة أدب لدى المعلّم سامي، وكم أثلج صدري نجاحه في تلك الحصّة بإشراك الطلاب وتفعيلهم بأسلوبه الممتع المشوّق، وبمعرفته وذائقته الأدبيّة المتميّزة، وبأسئلته الجيّدة المحفّزة، وتحلّيه بالدعابة والفكاهة العفويّة، فقد استمتع الطلاب – وأنا كذلك – بالحوار والنقاش حول الجوانب الفنيّة الجماليّة في النصّ الأدبيّ – بدون إغفال المعاني والأفكار – وبالأجواء التربويّة الودّية الحميمة التي سادت الحصّة.
بعد مشاهدتي لتلك الحصّة قلتُ للمعلّم سامي:
أهنّئك وأهنّئ طلابك على هذه الدروس الرائعة الناجحة المشوّقة، ولا عجب أن يعشق طلابُك اللغة العربية وآدابها، وكم كنتُ أتمنّى أن يكثر المعلّمون المتميّزون أمثالك!
من الجدير بالذكر، وفي أعقاب تلك الزيارة، توثّقت علاقتي المهنيّة مع المعلّم سامي، وقد "تطوّع" أن يشارك في تنظيم أيّامٍ دراسيّة ناجحة لمعلّمي اللغة العربيّة، وفي إعداد المواد المساعدة لهم، وظلّ على العهد حتّى ارتحل عن دنيانا في سنّ مبكّرة، تغمّده الباري بواسع رحمته.