أسطورة سليمان..
تاريخ النشر: 15/04/17 | 8:49تعتبر مسألة وجود النبي سليمان عليه السلام من المسائل التي لا يتوقف الجدل عليها ولا تخبو الاقلام من حولها الا لتشتعل من جديد بين المتدينين و اللادينيين فالمتدينين يعتبرون سليمان حقيقة وكل ما وصلنا عنه الهي لا يمكن الاقتراب منه أو التشكيك فيه كما يضيف المفسرون اليه من الاخبار مما يستحيل تصديقه أما اللادينيين فيرتابون في حقيقة وجود هذه الشخصية من الاساس في ظل الأساطير التي تنسج حولها والملك الضخم الذي اؤتيه خاصة أن اسم الملك سليمان لا يوجد بين سجلات الملوك القدامي وليس هناك أية مراسلات صادرة أو ورادة منه أو اليه تتضمن اسمه ولو بشكل عابر سواء من مملكته أو من الممالك الكبيرة المجاورة له وذلك في ضوء الاكتشافات الحالية والحقيقة أن أصحاب هذه الرأي يتناسون ان الملايين من المصنفات والوثائق التاريخية قد فقدت أبان الحروب والصراعات عبر التاريخ بشكل نهائي كما أنه لا يوجد سجل كامل لمراسلات أي ملك من ملوك هذه العصور السحيقة نتيجة لتلفها من ناحية أو لانها محيت وكتب عليها ملوك أخرين أو لم يعرف من اكتشفها قيمتها فأهملت حتي ضاعت تماما ولعل سجل رسائل تل العمارنة الذي سنتناوله فيما يلي خير مثال كما أن انتظار ظهور تماثيل لهؤلاء الانبياء أمرا يتنافي مع رسالة الانبياء الذين أتوا لازالة أية صورة من صور الوثنية فلا ينتظر أن يتحولوا لجزء منها ويسرفوا في هذه التماثيل والمحاريب فتتحول لساحات لعبادتهم من دون الله مع مرور الوقت .تبدو مسألة تحديد الفترة الزمنية التي عاش فيها سليمان بدقة صعبة الا أنها ليست مستحيلة في ضوء الربط بين ما جادت به الاكتشافات الاثرية والاديان السماوية.
ونبدأ في استعراض أدلتنا من عاصمة مملكة سليمان عليه السلام والتي استولي عليها أبيه داوود عليه السلام ( اورشليم ) حيث كانت أول اشارة الي اورشليم في رسائل تل العمارنة وهي لوحات طينية بخط مسماري ، تعود إلى القرن الـ 14 قبل الميلاد وقد اكتشفتها فلاحة مصرية تدعي زينب بقرية تل العمارنة، وكانت تعمل وعائلتها في صناعة الأواني الفخارية وباعتها مقابل عشرة قروش لجارها لجهلها بأهميتها!!!! ثم تناقلتها الايدي بعد ذلك بالأهمال حتي تحطم أغلبها . وتل العمارنة هي العاصمة التي اتخذها اخناتون (امنحتب الرابع) فرعون مصر عاصمة سياسية جديدة بديلة لطيبة عاصمة مصر القديمة ومعقل كهنة امون الذين ناصبوه العداء هو و ديانته التوحيدية التي سنتحدث عنها بالتفصيل في دراستنا .
ونتوقف في هذه اللوحات عند الرسائل الموجهة من ملك اورشليم عبدي هيبا أو عبدو خيبا الي اخناتون فرعون مصر وفي رسالة منه يقول :”…أتمنى على سيدي الملك أن يعلم أن جميع الأراضي تعيش بسلام إلا أنا أعيش في حرب. فلعل الملك يهتم بأمر أرضه. هذه أراضي گزرو (جازر) وعسقلونا (عسقلان) ولخيشي (لخيش) قد حصلت على الطعام والزيت وكل ما يلزم. أتمنى على سيدي الملك أن يعلم أن يعير اهتمامه لمسألة الجنود الرماة. ليعود الحكام لطاعة سيدي الملك. ولكن إذا لم يأت الرماة فلن يكون للملك أرضٍ ولا حكام. هذه أورشليم (القدس) لم يعطني إياها أبي ولا أمي وإنما ذراع الملك القوية”.
وكما يبدو من الرسائل فهناك رابطة استراتيجية قوية وقائمة بالسابق بين المملكتين مصر واورشليم جعلت ملك اورشليم يلوذ بملك مصر حتي يمده بالرماة كي ينقذ حدود بلاده من هجوم العبرانيين “العابيرو” الذين استولوا على الكثير من المدن والمناطق المتاخمة له وكما يظهر في الرسالة أن هذه الفترة كانت فترة وهن شديد في مملكة اورشليم حيث يتضح فيها الخضوع التام وإقرار الولاء للملك الذي منحه ملك البلاد عبر “ذراعه القوية” على حد تعبيره،.وبالتالي فهذه الفترة لابد وأن تكون تالية علي عهد سليمان الذي بلغت الدولة في عهده اوج قوتها وسيطرتها ..واذا تتبعنا التوراة وهي المصدر الأكثر وضوحا في هذه المسألة فأنه بعد سليمان تولي ابنه رحبعام (ابن سليمان من امرأته العمونية) واقتتل هذا مع أخيه يربعام (ابن سليمان من امرأته المصرية) فانقسمت المملكة الي شطرين يهوذا وعاصمتها أورشليم واسرائيل وعاصمتها شكيم ومنه نستطيع أن نلمس ان رابطة المصاهرة هي التي دفعت ملك اورشليم الي مخاطبة ملك مصر اخناتون كما أن استخدام عبدي لعبارة الذراع الطويل لا تخلو من معني فربما كانت اشارة خفية للدعم في الماضي والذي قدمه فرعون مصر لسليمان عليه السلام حينما اخضع له جازر في مقابل زواج سليمان من ابنته .
السؤال الذي يتبادر الي أذهاننا متي وقعت هذه المصاهرة الغير تقليدية بين النبي سليمان وفرعون مصر ؟
ونسقط هنا لفظ (الغير تقليدي ) علي كلا الطرفين فزواج سليمان النبي من وثنية كان خروجا علي التقاليد اليهودية ومدعاة للتوراه لاتهامه بعبادة الاوثان في نهاية حياته نتيجة لزيجاته من وثنيات !!! كما أن زواج ابنة فرعون مصري من ملك اجنبي خروج عن الاعراف الفرعونية المتصلة بنقاء الدم الملكي الفرعوني من الغرباء.
ولكي نجيب علي التساؤل الذي طرحناه فالامر الشائع في هذه العصور أن يعقب توقيع اية معاهدة او اتفاق بين الكتل السياسية المتصارعة الزواج وذلك لتأصيل الروابط بين الطرفين والاحتفاظ بها كرهينه ملكيه لضمان الالتزام بالاتفاق.و بحسب التوراة فقد تزوج سليمان من ابنة فرعون مصري لم تسمه وأن هذا الزواج كان بمثابة حلفا سياسيا بين مملكة إسرائيل ومصر وأن الفرعون المصري الغير مسمى قام باحتلال “جازر ” ضمن مدينة الرملة الفلسطينية حاليا وقام بإبادة الكنعانيين (لا حظ في رسالة عبدي هيبا لاخناتون ذكر جازر) وقد أصبحت المدينة لسليمان عقب غزوة الفرعون المصري وكانت بمثابة مهرا لابنته في سبيل زواجها من سليمان!!!. بالطبع البحث في التاريخ الفرعوني عن مثل هذا الشكل من خضوع فرعون مصر لملك منافس أمر غير وارد علي الاطلاق لاستحالة طرحه للعامة وبالتالي فسيتجه بحثنا منحي رصد الاستثناءات المسجلة في التاريخ الفرعوني فيما يخص العلاقات بين ملوك مصر وجيرانها .
ويعتبر تحتمس الرابع أول من ضرب بعرض الحائط التقاليد الفرعونية فيما يخص نقاء البذرة الفرعونية من أية شوائب اجنبية عنها (وصل بهم الي حد أن يتزوج الفرعون من اخواته وبناته ) حينما تزوج تحتمس الرابع من ابنة ارتاتاما الأول ملك ميتانى.
وقد سار علي دربه في هذا المسار الاستثنائي في التاريخ الفرعوني ابنه وخليفته امنحتب الثالث الذي ضرب ارقاما قياسية في مصاهرته لملوك الدول العظيمة انذاك فقد تزوج من جيلوخيبا ابنة “شوتارنا ” ، ملك ميتاني أحدي القوي العظمي في هذا الزمان كما تزوج أخت “توشراتا ” وهو ملك آخر لهذه البلاد ، ثم أخت ملك بابل وعاد وتزوج ابنتي الملكين السابقين ، ثم ابنة ملك “أرزاوا ” هذا بالاضافة الي زواجه من سيدة من عامة الشعب من أصل غير ملكى هي السيدة (تى) وهو في حد ذاته هو الاخر خروجا عن التقاليد الفرعونية في وجوب الزواج من أميرة تحمل دما ملكيا خالصا.
كما أن تحتمس الرابع قد أسس مستعمرة في طيبة للاسري الذين أحضرهم من جازر التي اشرنا اليها من قبل وهي من الحروب النادرة التي خاضها وكانت علي نطاق ضيق حيث غلب علي عصره وعصور خلفائه (الابن والحفيد ) الدبلوماسية الناعمة مع جيرانه فوقع العديد من المعاهدات مما جعل فترة حكمه وحكم من تبعه فترة من التراخي والعزوف الحربي الواضح والمهادنة الصريحة وهي فترة لا نستبعد فيها وقد كانت شاذة في كل شيء أن تقوم فيها المصاهرة بين احدي بنات فرعون مصر تحتمس الرابع التسع وبين الملك سليمان وربما كانت الحرب التي خاضها تحتمس الرابع في جازر المهر الذي دفعه تحتمس في سبيل زواج ابنته من سليمان الحكيم.
نأتي الي النقطة المحورية التي نرتكز عليها في بحثنا وهو التطابق اللافت بين مزامير داوود (أناشيد وتسابيح وترانيم في تمجيدِ عظمةِ الخالق ) وانشودة اخناتون مما يؤكد علي العلاقة الوثيقة بين مملكة سليمان والدولة المصرية تلك العلاقة التي احدثت انقلابا دينيا من خلال تسرب عقيدة مملكة داود وسليمان بشكل كامل الي مصر في عهد اخناتون والذي أمن باله واحد خالق الشمس ورمز له بقرص الشمس (اتون ) و حرم على الفنانين أن يرسموا صوراً لآتون، لأن الإله الحق في اعتقاده لا صورة له وسوف نسوق فيما يلي مقتطفات من تراتيل أخناتون والمزمور 104 من مزامير داوود لنؤكد علي هذا التناغم وأن تراتيل اخناتون ماهي الا ترجمة لمزامير داوود:
• ففي ترتيلة أختاتون: وحينما تغيب في افق السماء الغربى فان الأرض تظلم كالاموات نجد ما يطابقها في المزمور 104: – تجعل ظلمة فيكون ليل فيه يدب كل حيوان وعر.
• وفي ترتيلة اخناتون: ما اكثر تعدد اعمالك انها على الناس خافية يا أيها الاله الاحد الذى لا يوجد بجانبه اله اخر. نجد ما يقابلها في المزمور 104: – ما اعظم اعمالك يارب كلها بحكمة صنعت ملائنة الأرض من غناك ولا شيء غيرك.
• وفي ترتيلة اخري لاخناتون : وجميع الماشية ترتع في مراعيها والأشجار والنباتات تينع والطيور في مستنقعاتها ترفرف واجنحتها منتشرة تعبدا لك. وجميع الغزلان ترقص على اقدامها وجميع المخلوقات التي تطير او تحط تحيا عندما تضىء عليها. بينما في المزمور 104 نجد نفس المعني في قوله : تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها. فوقها طيور السماء تسكن، من بين الأغصان تسمع صوتا. تشبع أشجار الرب، أرز لبنان الذي نصبه. حيث تعشش هناك العصافير، أما اللقلق فالسرو بيته، حيث تعشش هناك العصافير. تشرق الشمس فتجتمع، وفي مآويها تربض.
• وفي ترتيلة اخري لاخناتون : الأرض زاهية حينما تشرق في الأفق وعندما تضىء بالنهار مثل اتون فانك تقضى الظلمة الى بعيد والناس تستيقظ ويقفون على اقدامهم عند ايقاظك لهم. وفي المقابل نجد عند المزمور 104:- تشرق الشمس فتنصرف وفى مسارها تربض، الانسان يخرج الى عمله والى شغله والى المساء.
ويعود الفضل في اكتشاف العلاقة بين أناشيد اخناتون ومزامير داوود للعالم الأثرى الشهير «جولونشف» فى أوائل القرن الحالى عندما كان يقوم بترجمة بعض البرديات الفرعونية التى يحتفظ بها (متحف بتروجراد) كما رصدها جيمس هنري بريستيد في كتابه فجر الضمير.
تدل الكشوف الاثرية أن عقيدة اخناتون التوحيدية كانت سابقة علي عصره وأنها ظاهرة بوضوح في عهد جده تحتمس الرابع والذي نرجح أنه الفرعون الذي عاصر سليمان عليه السلام في شطر ما من حياته وأن هذه العلاقة انعكست علي ظهور عبادة الاله الواحد في مصر ففي إحدى لوحات تحتمس الرابع (جد إخناتون) ظهر تحتمس يعبد قرص الشمس (آتون) وقد تدلى من هذا القرص شعاع ينبعث من الشمس حاملا إليه الخيرات. وكذلك جعران يذكر فيه اله الشمس باسم اتون كما استمرت هذه العقيدة بوتيرة ثابتة خلال عصر ابنه امنحتب الثالث حيث أطلق على قاربه الذي يتنزه به في بحيرته الصناعية بمدينة “هابو” اسم آتون كما سمح لأبنه أمنحوتب الرابع (إخناتون) ببناء معبدٍ في الكرنك لآتون. الا أن العقيدة بشكلها الكامل تبلورت بشكل واضح في عهد اخناتون.
لم يتوقف تأثير مملكة سليمان علي مصر في ظننا علي البعد الديني فحسب بل امتد التأثير الي ابعاد جديدة لم تكن معروفة من قبل في عهود الفراعنة السابقين علي هذا الشكل مثل حالة الترف الغير مسبوقة التي ظهرت بوضوح في عصر امنحتب الثالث الذي استقدم ما يربو علي الثلثمائه من حسناوات (نهرينا) الاماليد كما طلب من أمير جيزر أن يرسل اليه اربعين من العذاري الجميلات متخذا من هذه الهدية مقياسا لحسن ذوقه وخبرته !!!!!بينما أرسل له امنحتب في مقابل هذه الهدية النسائية ذهبا وفضة واحجارا كريمة متنوعة وكراسي من الابانوس كما طلب من أمير أورشليم (عبدي خيبا) أن يرسل اليه احدي وعشرين فتاة من ابكار بلاده وأن يسلم هذه الهدية النفيسة الي عامله الامين شوتا حتي تصل اليه سليمه من لمسات البشر !!!! وهي اجواء لا تختلف عن مملكة سليمان عليه السلام الذي تزوج من ألف امرأة (سبعمائة امرأة و ثلاثمائة من السراري) أو مائة امرأة في أكثر الارقام تواضعا فقد روى البخاري في صحيحه (5242 ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلام : لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ : قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَمْ يَقُلْ ، وَنَسِيَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ ” .
كما نجد من المناسب في هذا المقام أن نطرح سؤالا علي الزملاء اللادينين الذين لا يرون في زيجات سليمان معقولية لمجرد ان مصدرها الدين فما رأيهم في وثائق رسمية مكتشفة تتحدث عن ملك فرعوني كان لديه مالدي سليمان وأكثر؟!!!! علي النحو الذي أشرنا اليه والذي نرنو منه أن نسلط الضوء علي مدي انبهار امنحتب الثالث بسليمان والذي لم يعاصره للدرجة التي قرر معها تقليده علي هذا النحو!!.
وفي نهاية دراستنا التي حاولنا من خلالها أن نربط بين المعطيات الدينية علي تنوعها والملامح الاثرية علي ندرتها في سبيل تحديد الفترة الزمنية التي عاشها ملك ملأ اسماع الدنيا في حينه ووقته غير أن التاريخ ابتلع اثاره الا أن الاثر الديني لا يبلي لانه يظل في الوجدان ويبني الضمير .
د.محمد فتحي عبد العال
صيدلي وماجستير في الكيمياء الحيوية
دبلوم دراسات عليا من المعهد العالي للدراسات الاسلامية
مسئول الجودة بفرع الشرقية للتأمين الصحي بمصر