قصة زرقاء اليمامة وقصتي عن خروجها
تاريخ النشر: 24/04/17 | 0:57زرقاء اليمامة، واسمها عَنْز، هي من جّديس، حيث عاشت في اليمامة في منطقة فسيحة اسمها- جَوّ. اشتهرت بقوة بصرها، فقيل إنها كانت تبصر الشّعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها فتخبرهم إذا الجيوش غزتهم. تخبرهم بقدوم العدو قبل ثلاثة أيام، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، حتى احتال لها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه أن يقطعوا شجرًا، ليمسكوه أمامهم بأيديهم.
نظرت الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبل إليكم، وأنشدت:
أقسم بالله لقد دبَّ الشجر *** أو حِمْيَرٌ قد أقبلتْ شيئًا تجرّ
قالوا لها مكذّبين: قد خرفت، ورقّ عقلك وذهب بصرك.
صبّحتهم الخيل وأغارت عليهم.
بعد أن انتصر أعداؤها على قبيلتها، قوّروا عينيها، فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمِد من كثرة ما كانت تكتحل به.
..
سنعجب اليوم، ولا نصدق حكاية البصر الحادّ، فثمة غلوّ في الرواية.
لكننا قد نعلل القصة بأنها كانت تريد من قومها البقاء في حالة استعداد وعدم التراخي حتى لا يكونوا لقمة سائغة لعدوهم الملك حسان الحميري، هذا الملك الذي ينسب غزو اليمامة له.
كانت النهاية مأساوية تمثلت في اجتياح العدو مساكن قوم زرقاء وقتل الكثيرين منهم، وهي قصة قد تناقلتها الروايات في ما بعد وضخمتها، وهذا طبيعي في قصة تعاد روايتها.
…
مما نسب لها في تحذيرها لقبيلتها عندما رأت الشجر يتحرك:
خذوا حذاركمُ يا قوم ينفعكم *** فليس ما قد أرى بالأمس يُحتقر
إني أرى شجرًا من خلفها بشر *** وكيف تجتمع الأشجار والبشر
خذوا طوائفكم من قبل داهية *** من الأمور التي تخشى وتنتظر
ثوروا بأجمَعكم في وجه أولهم *** فإن ذلك منكمْ فاعلموا ظَفر
وناهضوا القوم بعض الليل إذ رقدوا *** ولا تخافوا لهم حربًا وإن كثروا
..
وردت القصة في (العقد الفريد، ج3، ص 71) لابن عبد ربه، حيث يذكر أن الزرقاء من بني نُمَير، وفي (خزانة الأدب، ج 10، ص 263) للبغدادي- الشاهد 845، وفي (مجمع الأمثال- المثل 574) للميداني، ويذكر أن “اسمها- اليمامة، وبها سمي البلد، وذكر الجاحظ أنها كانت من بنات لقمان بن عاد، وأن اسمها عنز، وكانت هي زرقاء”.
(ملاحظة: الزرقاء لزرقة عينيها).
ويرى الزمخشري في (المستقصى، المثل 53) أنها كانت ملكة قومها.
وردت القصة في (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني (ج2، ص 125 – دار الفكر):
“إنّ قومًا من العرب غزوا اليمامة، فلما اقتربوا من مسافة نظرها خشـوا أن تكتشف الزرقاء أمرهم، فأجمع رأيهم على أن يقتلعوا شجرات تستر كل شجرة منها الفارس إذا حملها. فأشرفت الزرقاء كما كانت تفعل. فقال قومها: ما ترين يا زرقاء؟
فقالت: أرى شجرًا يسير!
فقالوا: كذبت أو كذبتك عينك، واستهانوا بقولها.
فلما أصبحوا صبحهم القوم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا الزرقاء فقلعوا عينيها، فماتت بعد أيام. وعندما ماتت اقتلعوا عينها فوجدوا ان عينها كانت مليئة بالإثمد.”
وورد في المصدر نفسه أنها كانت ترى على مسافة ثلاثين ميلاً!
..
وفي (معجم البلدان- مادة يمامة) لياقوت الحموي ترد القصة طويلة، وحرب طسْم وجَديس مع تغييرات في التفاصيل، ويضيف أن الزرقاء أول من اكتحلت بالإثمِد بين العرب.
..
قد ينكر البعض هذه القصة على المستوى العلمي، ولكن القصة أصبحت أشبه بأسطورة، ونحن لا نبحث هنا عن مدى حدة البصر في الإنسان، أو مسألة انتهاء الأفق أمام الناظر بسبب كروية الأرض، بل نبحث عن العبرة.
هي قصة تبين ضرورة سماع النصيحة ممن له سابق خبرة.
..
ذكر الأعشى القصة في عينيته:
إذْ نظرتْ نظرةً ليست بكاذبة *** إذ يرفّعُ الآلُ رأسَ الكلب فارتفعا
قالت: أرى رجلاً في كفِّه كتِف ** أو يخصِف النعلَ، لهفي أيّةً صنعا!
فكذّبوها بما قالت فصبّحهم *** ذو آلِ حسّانَ يُزْجي الموتَ والشِّرَعا
فاستنزلوا أهلَ جوّْ من منازلهم*** وهدّموا شاخصَ البنيان فاتَّضعا
يشير الأعشى الكبير في البيت الأول إلى ما كانت وصفته الزرقاء في حركة الجيش القادم، حيث أنها رأت رجلاً يحمل طعامه، وآخر يخصف نعله، فقالت:
إني أرى رجلاً في كفّه كتف *** أو يخصف النعل خصفًا ليس يبتدر
..
ثم إن المتنبي ذكرها كذلك في معرض فخره:
وأَبصر من زرقاء جوٍّ، لأنني *** إذا نظرت عيناي ساواهما علمي
فضل المتنبي نفسه على زرقاء اليمامة فقال: إذا نظرت عيناي ساواهما علمي: أي أنهما لا يسبقان علمي، فإذا رأيت الشيء يبصره علمي بقلبي.
وروى ابن جِنّي “شأواهما علمي”، والشأو: المدّ والغاية. يقول: إذا نظرت عيناي فغايتاهما: أن تعرف ما علمته بقلبي؛ يعني أنه عارف بأعقاب الأمور.
..
وبعد،
فقد كنت كتبت قصة (وخرجت زرقاء اليمامة) نشرتها في حينه مجلة (فلسطين الثورة)، كما نشرتها في كتابي (أمام المِرْآة وقصص أخرى، ص 77)، وفيها استوحيت ما جرى لنا من هزيمة سنة 1967، وأن الأصوات التي استشرفت هذه الهزيمة لم يصغ إليها أحد.
إليكم القصة:
…
وخرجت زرقاء اليمامة
سادتي:
لم تكن قصة الشجر صحيحة، لكنهم أرادوا أن يجسّموا مبلغ صدق حدسي وبعد نظري، فألفوا هذه القصة.
وأنا لست بالغبية إلى هذا الحد حتى أقول لهم “إن شجرًا يتحرك ويقبل عليهم، وأنا وإن كنت لا أبصر جيدًا في أواخر أيامي– وهذا طبيعي لمن هو في جيلي – فأنا بعيدة عن الخرف والهذيان.
قومي يتبارون في جمع المال وإقامة الموالد، وأعراس، بناء، أعراس بناء، أعراس، بناء ……
قلت لهم أولاً، ولم يكن قولي إلا توجسًا، فلم يردّوا، وعموا وصمّوا.
وبعد أن وقعت الواقعة سمعتهم يرددون:
– لأنهم لم يصلوا.
– لأنهم صلَّوا وصاموا….
– لأنهم راءَوا في الصلاة وسهَوا، والدين يا أخي لا يمنع تقدم الآلة، و {علّم الإنسان ما لم يعلم} صدق الله العظيم.
– لأن العقاب مفروض من السماء، والناس قد فسقوا لأن …………..
وقلت لهم ثانيًا: إن الجراد قد أتى على بلاد قريبة، فقد يغزونا فاحذروا الجراد، يا جماعة الخير!
– هذي مشيئة الله، والمكتوب على الجبين تراه العين.
– جدي أكل من الجراد، فلماذا لا تجرب؟
– هذي مسؤولية الحكومة.
– ليس لي أرض وأنا مالي وللجراد؟ فليتحرك أحمد العلي وسلمان الحاج وسعيد اليوسف، فهم أولى.
(مر الجراد على زرعي فقلت له *** لا تأكلن ولا تشغل بإفساد)
الطقس بارد وغيوم تصور أشكالاً. قلت لهم:”ستكون حملة”.
لم يتحرك أحد”.
سارت زرقاء اليمامة باتجاه البحر، وعندما وقفت على الشاطئ ألفـَت نفسها تتقن السباحة.
نزعت الزرقاء ثيابها كلها، صارعت الأمواج، و…..
سقطت أمطار غزيرة غزيرة، والعاصفة تعصف.
واختفت الزرقاء رويدًا رويدًا عن الانتظار … واختفـــــــ
ب. فاروق مواسي