شح الأنفس
تاريخ النشر: 30/06/17 | 4:32قبسات وهمسات.. نفحات ولفحات.. في زمن زاد فيه “دبيب البغضاء”!
مدارها: شوائب تكدّر الصفاء، وتشوّه وجه الإخاء!
ومدادها: قطرات ندى للأخلاّء.. وعبرات من عيون الأوفياء!
قبسـات
قال الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء:128).
وقال جل وعلا: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم” (رواه مسلم وأحمد).
وفي لفظ عن ابن عمرو رضي الله عنهما: “إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا” (رواه أبوداود والحاكم، وصححه الألباني).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا” (رواه النسائي والحاكم، وصححه الألباني).
الثلث كثير..!
إنه داء في النفوس كامن متغلغل.. ملازم لها لا يكاد يفارقها، حاضر في شؤونها لا يغيب عنها، إلا من رحم الله ووقاه إياه؛ وجعله من المفلحين!
قال المولى الحكيم العليم:{وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء:128). وقال سبحانه: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9).
ووصفه من لا ينطق عن الهوى بوصف بالغ الغاية في الخطر والإضرار: “مهلك”؟!
فقال صلى الله عليه وسلم:”إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح..”!
ولعظم خطره وضرره، وشرره الذي يتطاير يمنة ويسرة فيصيب صاحبه ومنْ حوله؛ زاده رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بيانا في أحاديث عديدة، تجمعه مع قرناء من الأدواء..!
فلمّا جمع صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات في تحذير بليغ لأمته جعل له الثلث..(والثلث كثير)..!
كما في حديث أنس رضي الله عنه (الذي حسنه الألباني): “وثلاث مهلكات: هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه”.
وجمعه مع مقدمات الفتن والأمارات بين يديها؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في المسند والصحيحين: “يتقارب الزمان ويقبض العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج” قيل: وما الهرج؟ قال: “القتل”.
بيان من شيخ الإسلام..!
وهذه كلمات مباركات لشيخ الإسلام “ابن تيمية” رحمه الله، من كتابه “الزهد والورع والعبادة”، تهز قلوب المؤمنين، وتوقظ الغافلين عن حقيقة هذا الداء الوبيل، وما يتصل به من بغي وعدوان، ببيان عجيب وتمثيل وتقريب، يفهمه العوام، ويصلح – بل يحسن – تلقينه للصغار:
“قال المفسرون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ..}: هو أن لا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه؛ فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله؛ فإن الله ينهى عن الظلم ويأمر بالإحسان والشح يأمر بالظلم وينهى عن الإحسان، وقد كان عبدالرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت وبالوقوف بعرفة أن يقول: اللهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك فقال: إذا وقيت شح نفسي وقيت الظلم والبخل والقطيعة”.
وقال رحمه الله: “ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} ثم قال {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} فمن وقي شح نفسه لم يكن حسودا باغيا على المحسود، والحسد أصله بغض المحسود، والشح يكون في الرجل مع الحرص وقوة الرغبة في المال وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم..} الآيات، إلى قوله: {أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم} فشحهم على المؤمنين وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه وقطيعته؛ كالحسد فإنه يأمر الحاسد بظلم المحسود وقطيعته كابني آدم وإخوة يوسف؛ فالحسد والشح يتضمنان بغضا وكراهية فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص…”.
كل شحيح بخيل..!
كفى “الشح” شؤما أن “البخل” – ذلكم الخُلُق الذميم – أحد أتباعه!
وأن البخل على شناعته واستقباحه أدنى وأهون من الشح!
فكل شحيح بخيل، وليس كل بخيل شحيحا!
ومازال البيان لشيخ الإسلام رحمه الله؛ حيث يقول في التمييز الدقيق بين الشح والبخل:
“وابن مسعود جعل البخل خارجا عن الشح، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل، ومن الناس من يقول: الشح والبخل سواء، كما قال ابن جرير: الشح في كلام العرب هو البخل ومنع الفضل من المال. وليس كما قال، بل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع؛ فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل له به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذا به ولا متنعما، بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتى يكون يكره أن ينفع نفسه منه مع كثره ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته، وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانا إلى أحد، حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه؛ بغضا للخير لا للمعطي… وقد يكون بغضا وحسدا للمعطي أو للمعطَى؛ وهذا هو الشح، وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل، وليس كل بخيل شحيحا.
قال الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام؛ فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل أن يضنّ الإنسان بماله، والشح أن يضن بماله ومعروفه، وقيل الشح أن يشح بمعروف غيره على غيره، والبخل أن يبخل بمعروفه على غيره” (انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله – من كتابه: الزهد والورع والعبادة).
ولتلميذه ابن القيم في “الوابل الصيب” كلام قيّم.. يلخص ما سبق في عبارة جامعة:
“والفرق بين الشح والبخل: أن الشح هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه. والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه؛ فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره”.
الأخلاّء أوْلى بالسخاء..!
لا ريب أن “الأخلاء” وحملة لواء “الإخاء”.. هم أناس من جملة البشر، تصارع الطبائع والسجايا أضدادها في نفوسهم فمنزلق إلى الشح تارة، وساع في فلاحه تارة!
لكن وجه العجب من شأن “الشح” معهم هو ما يبلغه منْ بعضهم – في بعض الأحيان – مما قد يفوق حال البسطاء العوام.. الذين قد يبلغون “بفِطَرَهم” ما لا يبلغه “المتباهون بأخوتهم”!
فمنهم “مبادر” – بغير مناسبة – إذا كان بين إخوانه إلى تعداد أثقاله وأحماله؛ وقاية من طلبه في عون أخ محتاج أو غوث آخر ملهوف! فيؤثر ما يفنى على ما يبقى!
وآخر يتفلّت من بذل جاهه في شفاعة محمودة “يؤجر بها” وهو يقدر؛ مخافة فتح باب للمزيد؛ فيرضى بالغبن في جاهه؛ الذي لا يرتحل معه إلى قبره منه إلا ما ينفعه في آخرته!
وكم تبلغ “فطرة سليمة” بأخلاق أهلها ما لا تبلغه “أخوة سقيمة” أصابها هذا الداء!
ولمن أراد الوقوف من نفسه على شيء من ذلك أن يبلوها:
هل تبادر إلى البال – وهي تسمع هذه التذكرة – أنَّ حفظ الإنسان لما يملك لا يُذمُّ ولا يُعاب، بل هو من شيم أولي الألباب؟!
فهو قول حق، لكنه أتى في غير أوانه؛ بسبب “شح النفس” الذي أبى حتى أن تصفو هذه اللحظات للتحذير والتذكير والحث على “وقاية” تقود إلى الفلاح!
عودة إلى الصفاء (صور من السخاء)!
وفي الأمثال ذكرى وعبرة.. ولمن طالع شيئا من قصص السلف وقفة ورجعة!
ومن بديعها ما جاء في “عيون الأخبار” أن رجلا قال للعباس بن محمد: “إني أتيتك في حاجة صغيرة، قال: اطلب لها رجلاً صغيراً “! وقيل لرجل: لنا حويجة، فقال: “اطلبوا لها رويجلا”.
فهم لا يكفيهم سخاء نفوسهم، ولا مسارعتهم إلى غوث اللهفان؛ حتى يضيفوا إليه: تصغير المعروف وتقليله! فأي أثر يقع في نفس الطالب الذي تقضى حاجته بهذه الروح؟!
أما “عبدالله بن عثمان عبدان” أحد شيوخ الإمام البخاري.. فيتجاوز ذلك إلى حد يفوق الاستطاعة! ويسعى لسد حاجة الملهوف لدى الإخوان، بل لدى السلطان، فيقول رحمه الله: “ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان”! فلله دره؛ فكم من جواد كريم اليوم يرى أنه قد بلغ المنزلة القصوى بعدم استطاعته قضاء حاجة؛ لأنه لو استطاع لقضاها، فهو والمستطيع سواء، أما هؤلاء السابقون الأفذاذ فيشغلهم ويؤرقهم أن تُقضى الحاجة ويفرح الملهوف وينقلب إلى أهله مسرورا!
ومن هؤلاء الأفذاذ “قيس بن سعد بن عبادة” رضي الله عنهما، أحد كبار الأجواد، مرض يوما فاستبطأ إخوانه في العيادة، فلما سأل علم أن الذي منعهم هو حياؤهم لما له عليهم من الدين، فما كان منه إلا أن قال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة! ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حِلٍّ! فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده!
وفي بذل “الجاه” ابتلاء..!
ومن قصص السابقين أمثلة أخرى في بذل الجاه، فلهو (الجاه) أشق على بعض النفوس من المال، ولحاجة بعض الناس إليه أشد من حاجتهم إلى الدينار، وكم من رجل بذل الآلاف أيسر عليه من كلمة يشفع بها لدى ذي سلطان؛ حرصا على جاهه وإشفاقا عليه وشحا به!
وكان عبد الواحد بن زيد – رحمه الله – يحلف بالله: “لحرص المرء على الدنيا أخوف عليه عندي من أعدى أعدائه”.
وقد جاء الحث من نبي الهدى صلى الله عليه وسلم في الشفاعة المحمودة، فعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: “اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء” (رواه البخاري ومسلم).
علم ذلك الحسن بن سهل – رحمه الله – حين أتاه رجل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن: علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟”. وأنشأ يقول:
فُرضت علي زكاة ما ملكت يدي —- وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجـُدْ فإن لم تستطع —- فاجهد بوسـعك كله أن تنفعــا
وماذا بعد الفلاح..؟!
عود على بدء..
هذا شأن الشح، وهذه أحوال من كانوا يتقونه، وهذا كتاب ربنا يقرن اتقاءه بالفلاح:
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قال الشيخ “السعدي” رحمه الله في تفسيره:
“ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا، منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان الصنفان، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين”.
خالد عبد اللطيف