"راني جايْ " يا أمينِة
تاريخ النشر: 20/03/14 | 11:00لَنْ تَمْثُلَ الْحاجَّة أمينِة أمامَ مُحَقِّقي "الشّباك" وَلَنْ تَتَوَرَّطَ في أيِّ سُؤالٍ أوْ أيِّ جَواب. وحتّى لوْ مَثلَتْ أمامَهُم ووقَفَت وجْهًا لِوجْهٍ في غُرَفِهِمِ شَديدَةِ الْعَتْمَة ، فَلَنْ تَبوحَ لَهُمْ بأيِّ سِرٍ مِنْ أسْرارها الّتي أخْفَتْها عَنْهُم لأكْثَرَ مِنْ خَمْسينَ عامًا.
وَهْيَ كَتومٌ في طَبْعِها فلا تُشْارِكُ أحَدًا في سِرِّها.
وَمِنْ مَعْرِفَتي الطَّويلة والْقَريبة مِنْها أظًنُّها لَنْ تَكْشِفَ لهُمْ أنَّ لَها أخًا وَحيدًا، تَكْبُرُهُ قليلاً، يُقيمُ في مُخَيَّمِ الْيَرْموك مَعَ عائِلَتِهِ مُهَجَّرًا وَمًبْعَدًا، يُقيمُ في بَيْتٍ، هُوَ أشْبه بِخيْمَةِ شَتات، في شارع الشَّهيدِ جَلال كَعْوَش وَأنَّ اسْمَهُ أمين ساسي حسين الْمْهَنّاوي. وَهْوَ، مِثْلها، مِنْ قَرْيَةِ سَمَخْ الْفٍلِسطينِيَّة الْمُهَدَّمة والَّتي كانتْ تُطِلُّ على الشّطِّ الْجنوبي لِبُحَيْرَةِ طَبَرِيّا في الموقعِ الَّذي يَتْرُكُ فيهِ نَهْرُ الأردن المَسْبِي "البَحْرة" مُنْدَفِعًا جَنوبًا وبَعيدًا إلى حَيْثُ لا تَعْرفُ الحاجَّة أمينِة شَيْئًا عَنْ مَصيرِهِ.
ولا أظُنُّها سَتَقُصُّ عَلَيْهُمْ أنَّ أمين كانَ قرَّةَ عَيْنِها وَقَدْ رَعَتْهُ مِثْلَ طِفْلِها وأنَّهُ كانَ كُلَّ عالَمِها . وأنَّ أمين لَمْ يَعُدِ الْفَرْعَ الْمَقْظوع مِنْ شَجَرَةِ ساسي الْمْهَنّاوي ، بَلْ أورَقَ فَرْعًهُ اخْضَرَّ واشتَدَّ عودُهُ وأنْجَبَ بَنينَ وبناتٍ وأحْفادًا وحَفيدات، كانَ ولا يزالُ فارعَ الْقامَةِ مِثْلَ نَخْلَة، أبْيَضَ الْوَجْهِ، شَعْرُ رأسِهِ أقْرَبُ إلى الأشْقَر مٍنْهُ إلى الْقَمْحي وعَيْناهُ واسِعَتان وضاحِكَتانِ. ولَن تُفاخِرَ امامَهُمْ، كَعادَتِها حينَ تكونُ مُسْتَفَزَّةً، بَلْ ستؤكِّدُ لَهُمْ أنَّ أمين كانَ واحِدًا مِنْ عُرْسانِ سمخ الْحِلْوين أمثال محمد صالِح حسين المهناوي وأوْلاد غْميرِدْ وأبو عَفّارْ ومنصور وشعبان وأبو جعادة وأولاد سيدي يَخْلف. كان وكانوا زينَةَ سَمخ وأملَها.
أعْرفُها كَتومًا لا تَبوحُ بِسِر، خاصَّةً سرِّها الَّذي لا زالتْ تَحْتَفِظُ بِهِ لأكْثَرَ مِنْ خَمْسينَ عامًا. يَسْتَطيعونَ قَلْبَ الدُّنْيا وإقْعادَها والصُّراخَ في وَجْهٍها مُهَدِّينَ وَمُرْعِدينَ غَيْرَ مُحْتَرِمينَ لِشَيْخوخَتِها الَّتي تَخَطَّتْ الثَمانينَ وكانَ شَعْرُها راحَ يَسْوَدُّ (ولا اقولُ يَبْيَضُّ) مِنْ هَوْلِ ما عانتْ مِنْ أحزانِ وألَمٍ وَكِتمانِ سِرٍّ وَقَسْوَةِ عَيْشٍ وَتَقَلُّباتِ حياة، لكِنَّهم لَنْ يَفْلَحوا في انتِزاعِ كَلِمةٍ واحِدَةٍ مِنْها. وإذا ما دُعِيَتْ إلى المُثولِ في حَضْرَةِ الْمُحَقِّقينَ مَرَّةً أخرى، فَلَنْ تَتَرَدَّدُ في الابْتِسامِ في وَجْهِهِمْ تَعْبيرًا عَنْ سُخْرِيَةٍ لاذِعَةٍ وَعَنْ سِرٍّ أخْفَتْهُ طَويلاً وَرَوَتْهُ لي، حينَ أخْبَرْتُها أنَّ الْمُؤسَّسَة الْحاكِمة فيما كانَ وَطَنَنا أغْلَقَتْ نافِذَةَ الْلِقاءاتِ وأنَّ دَرْبَ الشامِ أوصدتها بِتَوْصِيَةٍ مِنَ "الشَّباكِ" وكانتْ تَوْصِيَةً مَمْهورَةً بِحَماقاتِ بَعْضِ عَربِنا.
قالتْ وَقَدِ اسْتَرَدَّتْ بَعْضَ عافِيَتَها:
يا وَلَدي! لَنْ أكْتُمَكَ سِرًّا، فلأكْثَرَ مِنْ خَمْسينَ عامًا وأنا أنتَهِزُ عَتْمَةَ الْلَيْلِ، أراوِغُ عُيونَ الْعَسَسِ لأجيءَ سَمَخْ طِفْلَةً لَمْ تَكْبرْ أرْكُضُ بَيْنَ زَقاقاتِها الْمُتْرَبَة، أدْخُلُ بُيوتَها، أقَبِّلُ أهلها الْلَم يَغيبوا عَنْ ذاكرتي ذاتَ لَحْظَة، أقَبِّلُهُمْ فَرْدًا فَرْدا وأنْدَهُ مِنْ قَحْفِ رأسي:
"وينَكْ يا أمين؟" !!، فَيأتيني صَوْتُهُ:
"راني جايْ "يا أمينِة.." وحَياةْ تْرابِ الساسي وْمَيِّةِ البَحْرَة وِبْيوتِ الطّينِ الْمَسْقوفَة بالقَصَبْ راني جايْ"
مِنْ يَوْمِها وَهْيَ تَنْتَظِرُ، تَحْتَفِظُ بالسِّرِّ ولا تَبوح.
هؤلاء أمهاتنا ، أشجار الزيتون والسنديان ، هن من صنعن جيلا وراء جيل من المتعلمين المثقفين المبدعين الفلسطينيين ، لتهز بهم عروش الظلم وتزلزل بهم الأرض من تحت أقدام الهمجية قتلة الأنبياء . أنتن يا أمهاتنا وطننا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا