مع نزار قباني
تاريخ النشر: 21/03/14 | 1:07ولد نزار الشاعر الملهم في أول الربيع 21 آذار 1923.
وكنت كتبت صفحات من سيرتي الذاتية عنه ومعه في أعقاب رحيله في 30 نيسان 1998، فنشرت المادة في الطبعة الأولى من "أقواس من سيرتي الذاتية" – 2002، ولكني ما لبثت أن نقحت المادة وأعدت النشر في كتابي "أقواس من سيرتي الذاتـية". ط2، طولكرم: مطبعة ابن خلدون- 2011، ص 62- 66.
في هذه الصفحات تحدثت عن بدايات اهتمامي بشعر نزار، بقراءاتي وتحليلي لشعره، وخاصة "خبز وحشيش وقمر"، بمقالاتي التي اتفقت معه أو خالفته فيها،
بلقائي معه في لندن سنة 1988 وحكاية ما جرى،
برحيله ، ومحاولتنا الاشتراك في جنازته.
صفحات تهم القارئ المتتبع، والقارئ الذي يحتفظ بالملف إلى إشعار آخر.
…………………………………………………………………………….
مع نزار قبانــي
أعترف أن لنزار قباني تأثيرًا على كتابتي، وعلى الكثير مما أدين به أدبيًا وفكريًا، وهذه مكتبتي تزخر بمجمل نتاجه شعرًا ونثرًا.
عندما قرأت نزارًا أول مرة كنت طالبـًا في الثانوية، أدهشتني جرأته في ديوان "قالت لي السمراء”- صدر سنة 1944- نقلت الكتاب بخط يدي، كعهد أبناء جيلي ممن يتعشقون الكتاب، ويستصعبون الحصول عليه. رددت أبياتـًا فيها جرأة لم أكن أحلم أن أقرأها، بل أرددها، فأمامي شاعر يموسق الكلمة، يضمّخها عطرًا، فأخذتْ عفويته تلامس شَغاف قلبي، وتدلني على دروب الحب، ولا يهمني من تكون البطلة، كنت أردد:
وشجعت نهديــك فاســـــتكبرا علــى الله حتــى.. فلم يسجدا
جرأة في المضمون، وجرأة في الشكل -"حتى فلم.. …….".
سمراء صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي
فكي الغلالة واسفري عن نهدك المتضرم
نهداك ما خلقا للثوب لكن للفم
مجنونة من مر عهد شبابها لم تلثم
***
تصوروا كيف يفعل هذا الشعر فاعليته على جيل مراهق، ولا أحسب المراهقة تنحصر في جيل محدد.
كان صديقي م. غ في أواخر الستينيات يستكشف الأجواء الأدبية ويتعشقها، اقترحت عليه أن يجمع كل ما قاله نزار في"النهد”، واتفقنا أنه أبدع كثيرًا في رسمه، ولا أدري أين هذه المجموعة في أوراقه، وهل سماها” نهديات” كما اتفقنا؟ ويبقى من الموضوع فكرته.
بهرنا أنا وجيلي صوتُ فيروز وهي تغني:
لا تسـألوني ما اسمــه حبيبـي أخشى عليـكم ضوعــة الطيـوب
واللـــه لـو بحـــــت بـأي حـرف تـــناثـــر الـليلـك فـي الـــدروب
فرأيت في هذه القصيدة صدقًًا يلائم سرية عشق كل منا، وهناك الليلك لغة التخييل التي تجعله يتكدس في الدروب، ثم تكررت الأغاني "أيظن”، "ماذا أقول له”………
فشعرت أن الشعر كالماء والهواء وتغريد الطيور الملونة، هنا مواكب الشعر- السهل الممتنع، المدينة الفاضلة للعشاق، وها أنا أكتشف شاعرًا يجعل الشعر خبزًا وماء وطيبًا.
* * *
في حصة الأدب- حيث كنت أدرُس في الجامعة- طلب الأستاذ أن ألقي قصيدة "خبز وحشيش وقمر”، فقرأتها بأداء استدعى التصفيق، لكني يومها لم أسبر غورها تمامًا. ومن يدري إن كنت قدمت لطلابنا شرحًا كافيًا لها في كتابي"الجنى في الشعر الحديث” – 1983، فهذه القصيدة مشحونة بالمتفجرات القيمية، وترفض حالة التخدير الشمولية- حالة الاستكانة؛ يخاطب الهلال فيقول:
أيها الرب الرخامي المعلق
أيها الشيء الذي ليس يصدق
دمت للشرق لنا عنقود ماس
للملايين التي قد عطلت فيها الحواس…
في أسئلة النقاش سألت :
“يرى البعض أن الشاعر انتقل في خطابه الهلال وأصبح وكأنه يخاطب الله،…. هل ترى ذلك؟"كيف تثبته أو تنفيه؟” (ولم يكن السؤال مجرد سؤال)، وكم بالحري إذا وافقت نزارًا على ما ذكره في مقدمة القصيدة – هذه القصيدة التي كان قد نشرها في مجلة الآداب، (آذار 1955)، حيث يرى أن وظيفة الفن هي تسليط النور على المشكلة، وفتح الستارة على المأساة دون تدخل في التفاصيل والحلول.
لم يكن إدخال القصيدة في مناهج التدريس سهلاً، وأذكر أنني دُعيت إلى المحكمة في حيفا لأكون شاهد دفاع مع معلم في ثانوية أم الفحم، وكانت البلدية قد أقالته بسبب تعليمه الإلحاد من خلال هذه القصيدة، وذلك في قول نزار:
…. الملايين التي تركض من غير نعال
والتي تؤمن في أربع زوجات وفي يوم القيامة
أبدًا ما عرفت شكل الدواء
قلت يومها: إن الشاعر رافض للقيم الشكلية،- لكنه ليس بالضرورة – متصديًا للدين في الجوهر، فالأدب فيه رموز وإشارات يمكن أن تكون دلالات لمعان أخرى، فليس كل من قرأ يحسن التأويل إلى درجة الحكم. وسرني بعد ذلك أن سوي الأمر.
وصرت من حبي لأدب نزار أبحث عن نتاجاته، وأستأثر بها، من باب التحليل للذات القارئة وأحقيتها في الحصول على النتاج من أية مكتبة، بدلاً من وضع الكتاب على رفوف في أحضان الغبار.
نشر نزار قصيدته "هوامش على دفتر النكسة” فهزتني مع الهزة في حزيران الذي لا ينسى، وكم رددت بين سياق وآخر:
ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا….
يا وطني الحزين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين..
خلاصة القضية
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية.
وقد جذب نظري كذلك موقف الشاعر من سلطة المجتمع المتنكرة للمرأة العربية:
يا سيدي
يا سيدي السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين
لأن نصف شعبنا ليس له لسان
لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان
في داخل الجدران..
نزار إذن يريدها ثورة قامعة للقديم، ولا يرى إلا الأطفال مناطًا للآمال، وما أصعب الحال حيث ظل الممثلون- الحكام متربعين على دسوتهم:
احترق المسرح من أركانه
ولم يمت- بعد الممثلون
ظل نثر نزار يشدني لا أقل من شعره- إن لم يكن أكثر….
قلت في كتابي" أدبيات- ص 96”:
“ ما أقرب نثر نزار على أنفاس شعره. لغته هي هي، تحمل نبضه وهيامه، تعكس خفايا روحه وأحلامه، تعيش في أعماقه، تحلق في آفاقه، تجري دافقة بين ذاته وموضوعه. وصدق نزار إذ سمّى طريقته في الكتابة "مدرسة” ودعاها"النزارية”.
وهذه النزارية لها عشاقها ومريدوها، ولها المتحفظون منها أو النافرون عنها، ولكنهم جميعًا يترقبون كل إبداع جديد فيها، ولا يستطيعون أن يمروا عنها مرورًا عابرًا”.
****
سألتني المذيعة: هل يقدر الرجل على أن يعبّر عن مشاعر المرأة أكثر منها؟
أجبت: نعم، ونزار الدليل، نجح في تفصيل الجزئية، أغرقها بالعطر، شحنها بالدفء، وشعره أصبح دليلها، ولا تعرف صحة كلامي إلا كل عاشقة جدية.
سألتني: وأين ابن أبي ربيعة منه؟
أجبت: قرأت كتاب نزار قباني وعمر بن أبي ربيعة لماهر حسن فهمي، وفيه موازنات بين الشاعرين في موسيقى الشعر وفي اللغة والأساليب وثورة المضمون، وفيه ترجيح للطاقة الشعرية التي خلبت الجماهير وقربتها للكلمة الشاعرة.
****
عارضت نزارًا في مقال "صباح الخير أيها الشعر” الذي نشرته في مجلة (الحصاد)-رام الله"العدد 27-1988”، وفيه تشفّى من الشعراء الذي لم تلق كتبهم رواجًا في معرض الكتب في بيروت، وكان قاسيًا. فكتبت مقالة "شيوع الأدب لا يعني جودته"- العدد 29- 1988، وأعدت نشرها في كتابي"الرؤيا والإشعاع”، ص131”، ومن جملة ما قلت:
" ومن كنزار يعي كيف يخدَّر جمهورنا بقراءة الأدب التافه الرخيص…،
إنه يدرك أن ذيوع القصيدة عنده وانتشار كتبه لا ينفي كونه شاعرًا مبدعًا وأصيلاً، كما أن ذيوع شعر غيره لا يعني إطلاقًا أنه أفضل ممن خيمت على كتبهم العناكب… وإذا كان نزار حزينًا لما أصاب الشعر الكاسد من مذلة وانكسار فإنني حزين أكثر لأن شاعرًا كبيرًا يؤمن بالاستفتاءات الثقافية…".
تناولت قصيدة نزار "أبي” في دراستي"رثاء الأب عند الشعراء المحدثين” (كتابي: دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث، ص91)، وقلت إنها تبهر القارئ بلغتها ووزنها وطاقتها الموسيقية ونحت كلماتها، لكنها أسوة بأشعار نزار في كثير من قصائده "تشع للحظة وتتوهج آنيًا بشكل لا يوازنه إشعاع – دون أن تترك أثرًا كبيرًا أو حكاية وراءها حكاية، أو نفسية ممزقة… وبالإجمال فهي تشبيهات من مقلع رخامي أصيل”.
***
دعيت في تموز 1988 إلى لندن لحضور المهرجان الثقافي العربي، حيث دعا إليه رياض نجيب الريس، وكانت الدعوة بتوصية من رئيس اتحاد الكتاب العرب سميح القاسم (شغلت يومها منصب النئيس- نائب رئيس الاتحاد)
لم أكن أتصور أن التقي هناك كبار الأدب العربي، وأن أجالسهم وأحاورهم. كان نزار وجهًا بارزًا في وسامته رغم كبر سنـــه، وقد اتسم بعذوبة ألفاظه ورقته.
استمعت إليه وهو يلقي قصائد عن بيروت، فيا للإلقاء، ويا للأداء!!!
وسعدت عندما أهداني كتابه (جمهورية جنونستان”لبنان سابقًا”)، وكتب عليه إهداء بخطه المنمنم المبهج الذي صوّرته لكم هنا:
“ إلى صديقي الحبيب الشاعر فاروق مواسي
مع أصدق مشاعري واعتزازي الكبير."
نزار
حدثني نزار عن قصائده الأخيرة "أطفال الحجارة”، وحدثته عن بالغ إعجابي بالحوار الذي أجرته معه مجلة (الكرمل)- "العدد 28/1988” تحت عنوان "لعبت بإتقان، وها هي مفاتيحي”، وكانت المقابلة ذات أهمية خاصة في نظري، ذلك لأن الشاعر جابه فيها خمسة محاورين حاولوا أن يمكروا به، وأن يحشروه في خانة "النثرية”.
سر نزار لأن الحوار راق لي، وأخذ يحدث مرافقًًا له عن هذه المقابلة وعن حكايتها.
***
عندما ودعت نزارًا في اليوم التالي قدمت له مجموعتي "الأعمال الشعرية الكاملة" المجلد الأول، شكرني، وقلب الكتاب وقال: ”هذه فقط….؟"
شعرت بالحرج، فكتاباتي نزر يسير إزاء كتابات نزار.
قلت له في الحال: أرجو أن أكون كما وصف الزيات أحد الأدباء "مقل مجيد”.
قال: "أعدك أن أقرأك”، ولكن لا تنس أن تسلم لي على كل ذرة تراب فلسطينية، على كل نبتة، على كل طفلة وطفل، على الوطن، على.. على…".
حضرت رنا القباني – ابنة أخي الشاعر، وسألتني أن أهديها بعض نتاجي، وخاصة "الجنى في الشعر الحديث”، لتقرأ ماذا كتبت عن عمها، فلعل ذلك يضيف لها شيئًا في رسالتها الأكاديمية – هكذا قالت-
قلت لها في حضرة الشاعر:
ما أحوجنا إلى الإفادة من عمنا نزار، فهو المبتدأ والخبر في رؤى القصيدة، عمّر لنا بيوت الشعر ووضع عليها بطاقات الحب السامي، وهو الذي أراد أن يشعر فغنى، لا سواه.
شكرني نزار بحرارة، وتوادعنا.
كتبت لنزار رسالة له وهو في جنيف، ولم أحصل على رد، ومما كتبت:
“ ثلاثية أطفال الحجارة – شهادة أخرى لك على صدق ذودك عن القضايا العربية عامة، والفلسطينية أخص، فاعلم أولا وقبلا أننا نحبك..".
***
لن أتحدث عن الألم بعد النعي، ولن أتحدث عن مبادرة قمنا بها لزيارة سوريا، والاشتراك في تشييع جثمانه، لكن من الحق أن اذكر نص برقية العزاء التي "فكسلناها”:
سيادة الدكتور عيسى درويش – سفير سوريا في القاهرة
اسمحوا لنا أن نعبر عن عميق الحزن والأسى لرحيل علم شامخ في أدبنا العربي – شاعرنا الرائع نزار قباني الذي بذل من فؤاده عطاءه، فوافانا إبداعًا وأصالة.
سيظل شعبنا العربي ذاكرًا تفرده ومقدرًا مواقفه.
أغدق الله عليه واسع الرحمة، وبقيت من بعده روعة الكلمة – فاتحة للحب.
يا حبيبنا نزار: سنظل نقرأك، وستظل معلمنا.
"توقيع سبعة أدباء فلسطينيين من الجليل والمثلث"