مقتطف من رواية “عَين خَفشَة”
تاريخ النشر: 31/05/17 | 8:27“..لا تروحوا يا ستّي، وتخلّوا الأرض سايبة، تركة لولاد هالحرام. بتموت لحكاية وبنموت معها” كم تهزّني كلماتها، كأنّها وصايا الملائكة لسكّان الأرض”
كأنّ كتفيَّ تطيران، شأن غرائبيّات الحكاية إلى فضاء بلا آخر. ساحرة مربكة بمفهوم آلسّحر آلّذي لا تفسّره دلائل. المكان لأُناس نيام، ويلزمني جرأة تكفي كي أستعمره تماما. طريقتي علنية في السلب، كصيادي القرّاص. بذريعة كمين وهمي يملأون به الشبك، لا يعترفون أنَّها آلموجة رَمتْهُ بهذه آلكثافة قريبا من آلشَّاطِىء. لا يهمسُونَ لِغيرِ آلشَّبكِ خلفَ أكتافِهمْ أنَّهُ من حقِّ آلجميع.
“ما لا تسلبه يسلبك”، تقرأ جدتي لأبي، فوق رأسي مواعظها وتوصيني حفظها عن ظهر قلب. تُمرِّرُ كَفَّيهَا آلواسعتينِ على رقّتهما، مُضمَّخَة بآبتهالها آلمتسارع، وبِمَا يُسعفُهَا مِن جزء عَمَّ. مفاجىء للبدن أن ترى آلدُّنيا كما تتأمل علاماته بعد أن شوّهه القهر، بهوية ملغيَّة. تكتبُها بحبر فوق بنفسجي على جسدك، وكُلّما مَرَّرتَهُ آزداد نقاء وبريقا لا يراه سواكَ، كأنَّكَ، حينذاك تكتُبُ لتَغسِلَ لا لِتُحَدِّد. لقد كانت الدنيا على غير ما ظننت، لاتعرف ما جاء قبلها. هل يحدث للتاريخ أن يصبح صفعة في عمق تُرعة؟
دقّت ساعة الصّفر، والأَفكار الآتية من حقّه، رجل خفشتنا المسحور، بدر العبدالله. عليّ أن أعود على رمش جنيّ، كما تدّعي الحكاية. أُنبتُ آلجزء آلّذي يتذكر في ركبتيَّ، في صابونها تنقبض الآن وجوه أفعال لم تنجز بعد. شَلحَتِي الدّاخليّة معروقة، بليلة هواجس لا أول لآخر أصواتها آلزّاعقة. هي آخر ما يلتصق بي على ذلك آلنَّحوِ آلحميميّ، دون أن يؤدي بي إلى آلغثيان، وكان كلّ ما أقع عليه أو يقع عليّ قادرا على سحبي إلى بلاد آلجُنون بسهولة ويسر. لماذا وصلتُ بهذا آلإصرار إلى مخابىء آلوجع؟ لم يكن معي من هو قادر على لجمي. مغمورة تماما ببهجتي وخوفي. مشاريع الموت كانت تنبني كلما ابتعدت، وفي رأسي يخضّ تنبيه جدّتي، “لا تروحوا يا ستّي، وتخلّوا الأرض سايبة، تركة لولاد هالحرام. بتموت لحكاية وبنموت معها” كم تهزّني كلماتها، كأنّها وصايا الملائكة لسكّان الأرض. وهواجسي تنقلب زرعا، دون مشيئتي، في باطن القلب. وخطوات بسطاري الرّياضي تحتلّ المساحات آلجاهزة للغَرس. لن تستسلم لبِذار موت تركها خرابا للغربان. فجأة لبست درع جالوت، وخيّل إليّ أنّني أقوى نساء الأرض. راح الموت، وكلّ، ما حولي، بدأ يأخذ لون حَبَقِي رائحته، وحكاياه.
“ما تروحوا يا ستّي، شي يوم من الأيّام عمّك خير راجع، والله راجع.. ولو صارت النّاس غابة، والدّنيا حطب” كم جميلة ظلّت نبوءاتها. ولا أعرف الآن لأيّ مدى فهمتُ حِكمتَها، لكنّي أذكر أنّها في نزعها الأخير نظرت في عيني، وابتسمت، قالت شيئا لم أفهمه تماما، : إِوعِك، يا ستّي، حبّات المسبحة ديري بالك عليهن” وأذكر أنّي من يومها أحتفظُ بمسبحة جدّتي تحت رأسي مثل تعويذة.
فهل تكون هذه الجثث الصّغيرة الّتي لم يصل أحد إليها حبّات المسبحة الّتي أوصتني بها؟ ظلّت ضحكتها أمامي، حين قاتلَ الفرح مُوّالها الأخير، وحُزني. فحين يُضرِبُ عَنّا الفرح تقاطعنا ذاكرة القلب، ونصير معوزين جدا، وشحّاذي نبض. قبضتُ على جمرِ وصاياها حين اختار الشتاء عتمَهُ بطلا لمغامرتي آلخَاطفة، وكان يجب أن أنجو. مشيتُ ومشيت، وصوتها في رأسي، على زندي، بين عيني. “خلّيكِ مفتحة، لا تخلّي حدا يلويكِ، وما تخافي حدا، فيكي اللّي يحميكِ، عقلك يا ستّي حاميكِ” أرهقني هذا العقل، وسيرهق أبي معي. تركتُ أغنياتها تمسك بيدي ونمشي معا مثل حمام الأمراء الأبيض الّذي يرقص بين القدمين وعلى الكتفين كلّما التقطوا صورا للوقت.
أمام عينيّ تلوحُ حلقات الذّكر الّتي غصّت بساحة بيتنا الباطونيّة وتكبيراتها، جدّتي، ثمّ بسملاتها وحوقلاتها على الّذين ذهبوا. “لا يا ستّي لن تعيدهم الرّيح” أهمس خلف حَطّتها. فتسدير إليّ بعنف، “وشو عرّفِك إنت؟” وحين يُفزِعُني الإنتظار. أشدّ طرف كمّها البنيّ، ” تْعِبْت من شكل الخيل اللّي حكيتيلي عنّو، وتْعبْت من تُفَاح الجن اللّي راح يجيبولي منّه سلّه، ستّي ليش تضحكي على عقلي؟”، تهزّ يدي، “لا يا ستّي، لا تيأسي، إحنا الفلسطينيّة مشوارنا بدّو نَفس طويل”. كثيرا ما أمسك بي أبي وأنا أطيل نَفَسِي، فيستغرب. أتذرّع بتوصيات ستّي، فيثور، أو يضحك وفق مزاجه.
لكنّي ذات يوم اتّهمتُ الّذين أقفلوا أبوابهم وخرجوا، بالجُبن، زعقت، “غدروهم يا ستّي، غدروهم، ورفعت خرزات المسبحة، وغصّت بصور أحبّائها، مثل خرزات هالمسبحة”. لا أفهم، “وشو يعني ستّي؟” فتصمت. أصبحتُ أشدّ غضبا، حين أتعثّر بما لا أفهمه.
أجهدُ في آلوصول إلى حُفَرِ آلقبورِ آللَّولبية. لا تفارقني عينا بدر العبدالله المبحلقتان في البياض، “إنّهُ مثلي خائفٌ بلا شك من لحظةٍ كهذه عليَّ، حين أمشي وحيدة، وأرتعب في كل مرة ألمحُ خلفَ هيأتي آلمُتطاولة شكلَ آمرأة يخرج من جسدي ويطاردني” همستُ لنفسي وأضفت، لقد أمطر فوق هذه آلأماكن طويلا دون أن يسأل عن إِمطارِهِ النّهمِ أحد. في نيّتهش الآن أن يحتج. لقد أخّرنا زمن لا ينتمي إليه. آلزَّمن.
كسربِ نُسور هارب يلاحق ظلّه، ألاحقُ حدسي وأعنّفُ قلبي الّذي لا يكنّ ولا يهدأ. أشرعَ نوافذه لقلق لا حدّ له. ومنذ أشرعَ نواياه، وأقسم أن يعلّق الحقيقة مشنقةً أو ملاذا تغرّب وجه أبي الغائب. هكذا اعتقدتُ، وأنا ألاحظُ فَوضَى آلمسمَيات تُحاصرُ خُطواتي. واجهتُ قلبي أكثر من مرّة، وأنا أتتبّع إيقاع خرزات المسبحة بين أصابع جدّتي. ألف مرّة انفرطت، وألفٌ مثلها شككتها بأناةٍ. ظلّت جدذتي تختبر قلبي، وتصميمي على أبناء عمومتي. أنا بقيتُ أهرولُ معميّة العينين إلى حتف قلبي. فمن عادة الأبطال أن يفقأوا عيون الحقائق ليبصروا، لكنّي لم أخطّط أن أكون بطلة، ولكن امرأة.
هل كان ثمن هويّتي يستحق هذا القطف العنيفُ لزهر براءتي؟ بعد مرور سنوات على يقظتي من الحلم، أعترف بغبائي. فبدر العبدالله لم يترك في جيب قمبازه حكاية واحدة. وكنت أعرف أنّ أوديب استدرجه غروره إلى كمين، فلم لم يستفق قلبي، وأنا أنفّذ خطّة القدر بحذافيرها؟ عميت عيناي، بعد أن رأيت، وسقطت من المخدّة البعيدة خرزات المسبحة الملفوفة لا تزال حول أصابع جدّتي دفعة واحدة، فأحدثت ضجيجَ الفأل السيّىء، الّذي يرعب الفلّاحّين، وأبي.
هرولتني المسافة. خيّل إليّ أنّ عين خفشة بصغيرِها وكبيرها تلاحقُ حذائي الرّياضي، وهي تجرّ مسبحة بطولِ حقلِنا. كنتُ أصغي بهلعٍ لصوتِ صدام الخرزات ببعضها، كأنّ كلّ خرزة بجحم شمّامة صغيرة. ذكائي على المحكّ، صوتي وذاكرتي، وعلاقتي العدائيّة لليهود في متنِ الحِكاية. فهل سينقذني خرز جدّتي من حتفي، وأنا أصرّ كأوديب على نزع الفوطة عن عين الجريمة؟ تهجسُ لبيبة، الكُنتها دون توقف لتنجو من أتون التّجربة. تفكّكت أقدامي، وأنا أستنجدُ بقلبي ليقاوم. الهزيمة مفردة بغيضة في عيني جدّتي، أسمع حفيفث مشيتها فوقَ الغيم، فتتّسع ابتسامتي. وكلّما ابتعدت سقط الخوف في حذائي. لا أذكرُ متى خفتُ آخر مرّة! لكن من آلجائز أنَّها آلمرّة التي واعَدَنِي فيها آسر في ساحة آلميدان، ولم يأت. وبدأتُ أفتّشُ عنهُ بين أحياء القرية، كأنّي أضعت طفلا لا يعرف طريق العودة. من حيّ لِحي، ودربٍ لدرب، وخلفي طابور كلاب ضّائعة مثلي، تنتظر أن أعيدها إلى أصحابها.
بقلم رجاء بكريّة – روائيّة وفنّانة تشكيليّة حيفا