الشعر الحَـلَمَنْـتيشي
تاريخ النشر: 04/06/17 | 15:15نجد في شعر بشار وأبي نواس وابن الرومي وغيرهم لقطات شعرية فكاهية، فيها مفارقات، لكنها ظلت تعتمد الفصيحة. لكنا هنا إزاء لقطات شعرية كوميدية ظريفة، تميزت بمزج العامية بالفصحى.
برز الشاعر حسين شفيق المصري (1882- 1948) في هذا الشعر الظريف، فأنتج أعمالا أطلق عليها «الشعر الحلمنتيشي»- نسبة إلى فرقة تُدعى (حلمنتيش) كانت تعرض مثل هذا الشعر الفكاهي، ويقال إن المصطلح منحوت من كلمتين (حلا) من حلا الشيء –حلاوة، و (منتيشي) من – (نتش) الشيء إذا جذبه، والنتاش في العامية المصرية هو الفشّار أو الكذاب. وبهذا تكون الكلمة تعني النتش الحلو أو الفشر اللذيذ.
في الشعر الحلمنتيشي مداعبات هزْلية، منها ما هي إصلاحية وانتقادية لأحوالنا الاجتماعية. كان من حلمنتيشيات حسين المصري أن عارض المعلقات السبع بقصائد سماها “المشعلقات”.
من شعره:
الحب أخرج مقلتي بصباعه *** وأذاب قلبي باللهيب بتاعه
سار الوبور إلى بلاد أحبتي *** يا ليتني متشعبـط بذراعـه
..
أدكتور مهلاً بعض هـــــذا التــــدلل *** وإن كنت قد أزمعت قتلي فاقــــتل
أغرك مني أن جيبي فـــــــــــــارغ *** وأنك مهما تقفل الباب أدخـــــــــــل
لقد كنت ذا عز وكنت منعــــــــــمًا *** ومن يتقامر مرة يتبهـــــــــــــــــدل
يعالجه فقر يدق دمــــــــــــــــــــاغه*** كجلمود صخر حطه السيل من عل
..
أفتش في الديوان عن واحد له *** نفوذ لتوظيفي وفكري موزع
يقولون لي هل من وسيط تجيبه *** شفاعته عند الرئيس بتنفع
فهل كانت الليسنس لما أخذتها *** شهادة تطعيم.. بها أتسكع
أليس حرام أنني على أبوابكم أتلطع
وغيري عشان محسوبكم متوظف *** أراه عليكم دائما يتدلع
بغير شهادات ولا فهم عنده *** بليد وفي أشغاله يتلكع
إذا كنت ذا عقل فكن ذا صناعة *** أو اسرح بفجل حين يمضع يبلع
..
يعتبر الشاعر المصري ياسر قطامش أبرز شعراء الحلمنتيشي في عصرنا هذا، وهو الأكثر تدوينًا في الشعر الحلمنتيشي والقصص الساخرة، ومن قصائده معارضته للأطلال (يا فؤادي لا تسل أين الهوى):
يا فؤادي لا تسل أين الجنيه *** إنَّه مات فقف وابكي عليه
اسقني واشرب على أطلاله *** قهوة من أدمعي أو نسكافيه
ومن شعره:
إذا الشعـبُ يـومـًا أراد اللـحـومَ فـلابـدَّ أن يستجـيـبَ الـبـقــــرْ
ومن لـم يعانقـه شـوقُ اللحـوم ِتشـابـه عيـشـتـه للـغـجـــرْ
فليـس كمثـل ِاللـحـوم فــراخ *** ٌوليـس كمـثـل ِاللـحــــوم زفــــرْ
وقالـوا”ده سعـر اللحـوم كبيـرٌ” *** يضــــرالمـرتـّب كــل الـضـــــررْ
وإنَّ الـدراهــم َلاتـشـتـريـه *** فســــعـر اللحـوم كسعـر الــدررْ
فقلـت وليـس أمـامـى سبـيـلٌ *** سآخـذ ُواللحـم َبعـض َالـصـورْ
..
زيديني خبزًا
..
زيديني خبزًا زيديني *** يا أشطر طباخ صيني
زيديني مرقًا يا سيدتي *** إن الجوع سيطويني
زيديني خبزًا علَّ الخبز إذا آكلـــه يكفيني
..
طباخة عمـــــــــــري طنجرتي
مغرفــــــتي فــــوق ســــكاكيني
حطي لي صحنًا من حبات الزيتون
و ضعي لي عدسًا مع عصرة ليموني
أشعر بالجوع فغديني
غدينــــــــي
فأنا من بدأ التكوين
أبحث عن أنثى تأتي لتعشيني
عن أنثى تعرف خبز الكيك
وتحضّرلي أطباق الحلوى
وشرابًا حلوًا تسقيني
ظلي جنبي غديـــني
زيديني خبزًا زيديني
يعتبر الشاعر مصطفى رجب أيضًا من رواد الحلمنتيشي، ومن قصائده:
قالت وقد بصَّت عليّ: عوافي! *** وتدلعت في ثوبها الشفافِ
وتحايلت وتخايلت وتمايلت *** حتي سَبَت عقلي بغير سُلافِ
قالت: أأنت من العجوزة يا فتى؟ *** أم أنت جِلف من بني الأريافِ؟
إني أراك مُهندمًا ومؤدبـــًا *** وعليك قنطار من الأصوافِ
لكن لمحتُك في الطريق تبصُ لي *** وتكاد تقضم من لحوم كتافي
النماذج كثيرة من هذا الشعر الذي تهواه النفوس كما تهوى الفكاهة والمداعبة الساخرة، ولبيرم التونسي، ولأسعد رستم ولحافظ وشوقي في هذا الشعر الطريف الظريف. فمن شعر شوقي مقطوعة يسخر فيها من نفسه عندما وُلد ابنه البكر:
صار شوقي أبا علي *** في زمان التَّرََللي
وجناها جناية *** ليس فيها بأول
..
ومن شعر حافظ ما عارض به شوقي ساخرًا:يقول شوقي:
مال واحتجب *** وادّعى الغضب
ليت هاجري *** يشرح السبب
يرد عليه حافظ :
شال وانخبط *** وادعى الغلط
ليت هاجري *** يبلع الزلط
…
أذكر أن أحد معلمي مدرستنا الابتدائية كان شاعرًا، وكان يكثر من هذا الشعر الحلمنتيشي، فقد سمعته يخاطب طالبًا أغضبه:
لئن ضربتك في يدي *** ضرب المعلم للردي
تقول من فرط الأذى *** دخيل ألله وأحمد
لي ابن عم يلقب (الشاعر)، وقد اشتهر اللقب لأنه كان يكتب الشعر العمودي في كل مناسبة، فمن شعره ما كتب يشكو حاله:
ليس لي في البنك قرش واحد *** اسألِ (الجسّار) ينبيك الخبرْ
(الجسار- مدير المصرف.)
وله قصيدة عن المركبة الفضائية التي حلق بها غاغارين:
أبولو (حْداشَ) يا ابتي *** تحلّق فوق أجوائي
أعود إلى الأستاذ الذي هدد طالبهُ بالضرب في يده، فقد كتب معارضة لصفيّ الدين الحلي مطلعها:
سلوا الملاعق عنا والسكاكينا *** واستشهدوا الخبز هل خاب الرجا فينا
هذا المطلع ما أذكره منها.
لكن الشاعر علي محمد غرة أصدر ديوانه الجديد “الشعر الموزون”، عوّض عني فيها، فله معارضة أخرى لصفيّ الدين الحلّي، أقتطف منها:
سلِ الطواهيَ عنا والطوابينا *** ويشهدُ الخبزُ ما خاب الرجا فينا
واسأل عن اللوف والخبّبيزِ ما صنعت *** في بطن حاسدنا أو قلب قالينا
وسائل البطن عن رزٍّ به سقطت *** حبّاته لتزيد الكرش تسمينا
وللمناقيش دَور في الفطور وزِد *** فطيرة تحتوي زيتًا وزيتونا
إذا سَمِعْنا مِنَ الأمْعاءِ قَرْقَرَةً *** فالْجوعُ يَعْصرها عَصْرًا فَيؤذينا
وَحِلَّةٌ مِنْ مَحاشي لامَثيلَ لَها *** فيها دَوالي وَمَلْفوفٌ تُغَذّينا
إذا حَشَوْنا دَجاجًا طابَ مَأْكَلُهُ *** وَإنْ طَبَخْنا خَروفًا كانَ تَفْنينا
إنْ أمْطَرَتْ وابِلاً يَوْمًا على عَجَلٍ *** نَشْتاقُ أَكْلَةَ مَفتولٍ تُسَلّينا
وَإنْ عَصَرْنا ثِمارَ الزَّيْتِ يَجْمَعُنا *** مُسَخَّنٌ بِدَجاجٍ للمحبّينا
يَعْلوهُ خَلْطَةَ سمّاقٍ يُحيطُ بِها *** صُنَوْبَرٌ وَلُبوبُ الّلَوْزِ تُغْوينا
وَلِلْكنافَةِ تَفْليذٌ يُمَيِّزُها *** مَنْ لَمْ يَذُقْها يَظَلُّ الدَّهْرَ مِسْكينا
….إلخ
ملاحظة: ثمة أشعار أخرى فيها المزيج بين لغتين أو أكثر، ويتم تطويعها لأوزان اللغة العربية.
ب. فاروق مواسي