مَشْهَدٌ مَسْرَحِيٌّ مُخْتَلِفٌ مِنْ سيرَةِ عَنْتَرَ وَعَبْلَةَ
تاريخ النشر: 07/06/17 | 19:23“كِلاهُما مَمْنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ في عُرفِ اللُّغَة وَالقَبيلَةِ، لٰكِنْ لَيْسَ في عُرْفِ الحُبِّ وَالصَّحْراءِ”
بَعْدَما خَلَّصَ عَنْتَرُ عَبْلَةَ مِنْ هَمَّامِ بْنِ غالِبٍ وَعادَ بِقَبيلَتِهِ إِلى مَضارِبِ بَني عَبْسٍ، وَكانَ يُمَنِّي نَفْسَهُ بِالزَّواجِ مِنْ حَبيبَتِهِ عَبْلَةَ، وَقَدَّمَ الأَلْفَ ناقَةٍ لِعَمِّهِ مَهْرًا لِعَبْلَةَ، نَكَثَ عَمُّهُ مالِكٌ بِوَعْدِهِ مَرَّةً أُخْرى، وَطَلَبَ مِنْهُ ما يَعْجَزُ عَنْ تَلْبِيَتِهِ؛ وَهُنا قَرَّرَ عَنْتَرُ مُغادَرَةَ الحَيِّ إِلى الصَّحْراءِ لِيَعيشَ بِمُفْرَدِهِ، فَقَدْ يَئِسَ مِنْ عَمِّهِ وَلَمْ يَعُدْ يَرى بَقاءَهُ بَعْدَ كُلِّ ما فَعَلَ مُجْدِيًا وَأَنَّهُ لا حَظَّ لَهُ بَحَبيبَتِهِ وَلا هِيَ مِنْ نَصيبِهِ. أَمَّا عَبْلَةُ فَقَدْ كَثُرَ خُطَّابُها مِنْ كُلِّ جَزيرَةِ العَرَبِ، وَلِكَثْرَةِ ما حاوَلَ أَهْلُها مَعَها أَنْ تَنْسى عَنْتَرَ كَوْنُهُ غادَرَ، وَبَعْضُهُمْ قالَ: عَجْزًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ الوَفاءَ، وَالبَعْضُ قالَ: لَقَدْ ابْتَلَعَتْهُ رِمالُ الرَّبْعِ الخَرابِ، وَالبَعْضُ أَلَّفَ قِصَّةً أَنَّ عَنْتَرَ عادَ إِلى الـمَلِكِ النُّعْمانِ وَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُ. لِكَثْرَةِ ما سَمْعَتْ عَبْلَةُ مِنْ قَصَصٍ خَرَجَتْ لَيْلًا عَلى غَيْرِ هُدًى، هارِبَةً إِلى البيدِ، فَهِيَ لا تَرى كُفْؤًا لَها غَيْرَ عَنْتَرَةَ، وَما زالَتْ في سَيْرِها حَتَّى وَصَلَتْ مَضارِبَ قِبيلَةٍ مُجاوِرَةٍ فَعَرَفَتْها بَعْضُ نِساءِ القَبيلَةِ وَأَخْبَرَتْهُنَّ بِقِصَّتِها، ثُمَّ عاشَتْ في القَبيلَةِ تُشارِكُ النِّساء في أَعْمالِهِنَّ، وَلِكَوْنِ عَبْلَةَ مِنْ حَرائِرِ العَرَبِ فَقَدْ أَكْرَمَتْها القَبيلَةُ ولم تُعامَلْ كَسَبِيَّة.
كانَ عَنْتَرَةُ كُلَّ عامٍ يَعودُ إِلى الحَيِّ مُتَخَفِّيًا يَسْتَطْلِعُ الأَمْرَ وَيَقِفَ عَلى أَخْبارِ حَبيبَتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَدْراجَهُ، وَفي تِلْكَ الـمَرَّةِ لَـمَّا وَصَلَ لَمْ يَجِدِ الحَيَّ، بَلْ وَجَدَ أَطْلالًا مُتَناثِرَةً هُنا وَهُناكَ، تُخْبِرُهُ أَنَّ القَوْمَ قَدْ رَحَلوا، ثُمَّ سَمِعَ بُكاءً فَراحَ يُصْغي لِيَقِفَ عَلى مَصْدَرِ الصَّوْتِ وَإِذا بِهِ صَوْتُ حَبيبَتِهِ عَبْلَةَ، وَهُنا يَبْدَأُ الـمَشْهَدُ وَالحِوارُ بَيْنَهُما:
مَرَرْتُ عَلى أَطْلالِ عَبْلَةَ مَوْهِنًا.. سَمِعْتُ نَشيجًا لَمْ يَكُنْ لي بِهِ عَهْدُ
فَقُلْتُ لِنَفْسي بَعْدَ طولِ تَأَمُّلٍ .. بِدارَةِ عَبْسٍ هَلْ قَضَوْا وَانْتَهى العَهْدُ
“وَهَلْ غادَرَ الشُّعْراءُ مِنْ مُتَرَدَّمٍ”.. وَهَلْ سالِفُ الأَرْباعِ أَدْرَكَهُ النَّفْدُ
أَرى طَلَلًا عَهْدي بِهِ كانَ عامِرًا .. بِأَهْلٍ تَحاموني، وَنادَيْتُ، ما رَدُّوا
رَحَلْتُ عَلى كُرْهٍ وَفارَقْتُ عَبْلَتي.. جَزى اللهُ قُطَّاعَ الوِصالِ وَمَنْ سَدُّوا
طَريقي وَحالوا دونَ فَوْزي بِمَطْلَبي.. شَتاتًا بِلا جَمْعٍ وَأَهْلَكَهُمْ حِقْدُ
وَها هِيَ عَبْسٌ قَدْ غَدَتْ أَثَرًا فَلا .. خِيامٌ وَلا نوقٌ وَلا أَهْلَ لا جُرْدُ
وَفَيْتُ بِعَهْدي في تَفَقُّدِ عَبْلَةٍ .. وَما رُمْتُ نَكْثًا إِذْ تَعاهُدُها عَهْدُ
قَطَعْتُ عَلى نَفْسي لِأَوَّلِ رَكْضَةٍ .. بِصُحْبَتِها وَالشِّيحُ سِتْرٌ مَتى نَعْدو
وَفَرَّقَنا دَهْرٌ أَطاعَ وُشاتَهُ.. وَشَطَّتْ بِنا الأَيَّامُ وَاشْتَعَلَ الوَجْدُ
وَما زِلْتُ مُذْ تِلْكَ العُهودِ أَزورُها.. عَلى غَفْلَةٍ مِنْها فَلَمْ يَثْنِني البُعْدُ
وَرُحْتُ أُجيلُ الطَّرْفَ قَصْدَ تَبَيُّنٍ.. لَعَلِّي أَرى إِنْسًا يَتِمُّ بِهِ القَصْدُ
فَما راعَني إِلَّا عُبَيْلَةُ أَسْفَرَتْ.. عَلى صَخْرَةٍ في الخَلْفِ وَالبَدْرُ مُرْبَدُّ
مَدامِعُها فَيْضٌ وَفي الخَدِّ خَدَّدَتْ .. لِطولِ بُكاءٍ وَالشِّفاهُ لَها رَعْدُ
قَفَزْتُ إِلَيْها مِنْ عَلى صَهْوِ سابِحٍ .. سَبوقٍ إِذا ما رامَهُ الفَرَسُ النَّهْدُ
فَقُلْتُ يَمينَ اللهِ يا عَبْلَ لَيْتَني.. قَدَ ارْمَمْتُ وَسْطَ البيدِ أَوْ هَدَّني القِدُّ
وَلا قَدَّ مِنْكِ الدَّمْعُ وَالحُزْنُ أَضْلُعي.. وَلا أَبْصَرَتْ عَيْنايَ ذا القَدَّ يَنْقَدُّ
أَبَعْدَ نَضارِ الوَجْهِ يَشْحُبُ لَوْنُهُ.. وَبَعْدَ انْتِظامِ الدُّرِّ يَنْتَثِرُ العِقْدُ؟
فَقالَتْ: تَرَكْتُ الرَّبْعَ حَوْلَيْنِ لَمْ أَعُدْ.. مَخافَةَ إِجْباري بِمَنْ وَجْهُهُ القِرْدُ
وَوَلَّيْتُ شَطْرَ الغَرْبِ دونَ دِرايَةٍ.. إِلى أَيْنَ أَمْضي، فَلا سَرْجَ لا عَبْدُ
وَما زِلْتُ وَالتَّسْيارُ يُدْني مَنِيَّتي.. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يُقاتِلُني الصَّهْدُ
وَلاحَتْ لِعَيْني في النِّهايَةِ نِسْوَةٌ.. وَحادِيَةٌ، وَالرَّغْدُ مَعْلَمُهُ البُرْدُ
فَنادَيْتُ مَرَّاتٍ إِلى أَنْ سَمِعْنَني.. وَأَقْبَلْنَ نَحْوي فَاسْتَجَرْتُ بِمَنْ تَحْدو
وَقالَتْ عَجوزٌ بَيْنَهُنَّ عَرَفْتُها.. عُبَيْلَةُ هذي، قُلْتُ: فارِسُها العَبْدُ
فَأَسْقَيْنَني حَتَّى ارْتَوَيْتُ وَسِرْنَ بي.. مُعَزَّزَةً مِنْ بَعْدِ ما هَدَّني الجَهْدُ
وَأَقْرَيْنَني لَـمَّا وَصَلْنا فَعادَ لي.. نَضاري، وَأَمَّا الاِسْمُ فَالجَوْهَرُ الفَرْدُ
وَعِشْتُ بِذاكَ الحَيِّ عَيْشَ كَريمَةٍ.. وَكانَ حَنيني لِلدِّيارِ لَهُ وَقْدُ
وَها عُدْتُ لٰكِنَّ الدِّيارَ كَما تَرى.. وَبِالأَمْسِ كانَتْ لا يُعَدُّ لها رِفْدُ
وَكَمْ أَكْرَمَتْ لِلضَّيْفِ مِنْ طَيِّبِ القِرا.. وَكَمْ جادَها الوَسْمِيُّ يَسْبِقُهُ العَهْدُ
هَرَبْتُ لِصَوْنِ الحُبِّ يا خَيْرَ فارِسٍ.. تَعَشَّقَ روحي، ما سَأَلْتُ مَتى الوِرْدُ
فَحُبُّكَ في الأَحْشاءِ غَيْرُ مُفارٍقٍ.. إِلى الحَشْرِ رَغْمَ الجَمْرِ يَكْوي وَلا بَرْدُ
وَكَمْ راوَدوني لِلسُّلُوِّ وَكَمْ أَتى.. فَوارِسُ، لٰكِنْ كانَ حَظَّهُمُ الصَّدُّ
وَصُنْتُ هَوانا أَنْ يُدَنَّسَ طُهْرُهُ.. وَلَوْ مَلَّكوني الدَّهْرَ ما أَنْجَبَتْ نَجْدُ
وَفي العَرَبِيَّاتُ الوَفاءُ خَليقَةٌ.. وَلَوْ هَدَّهُنَّ الجوعُ أَوْ أَطْبَقَ اللَّحْدُ
وَلَسْنا كَوَصْفِ ابْنِ الحُسَيْنِ لَنا “مَنِ الْـ .. جَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ؟” إِذْ نَغْدو
وَلٰكِنْ بَناتُ البيدِ، مِنَّا تُماضِرٌ.. وَلَيْلى وَعَزَّةٌ وَبَلْقيسُ أَوْ هِنْدُ
وَلَوْ شِئْتُ سَرْدَ الـمَكْرُماتِ فَلَنْ تَفي.. صَحائِفُ أَهْلِ الخَطِّ أَوْ يَسَعَ السَّرْدُ
وَمِثْلُكَ أَدْرى ما عُبَيْلَةُ عَنْتَرٍ.. وَسَلْ إِنْ نَسيتَ العَهْدَ لَنْ يُبْطِئَ الرَّدُّ
أَموتُ وَفاءً لا أَموتُ خِيانَةً.. وَما قَدْ قَضى الرَّحمٰنُ، قُلْتُ: لَهُ الحَمْدُ
فَقُلْتُ: فَداكِ العُمْرُ يَكْفي عُبَيْلَ ما .. شَكَكْتُ بِيَوْمٍ أَنَّ عَبْلَة قَدْ تَغْدو
حَليفَةَ نُكْرانِ الهَوى أَوْ تَخونُني.. وَلٰكِنْ خِيارُ الأَقْرَبينَ بِنا أَوْدوا
وَساعَدَهُمْ دَسُّ الوُشاةِ وَمالِكٌ.. أَبوكِ، وَكَمْ قَدْ قالَها يَخْسَأُ الوَغْدُ
وَلَيْسَ عَلى طولِ البِلادِ وَعَرْضِها.. أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْكِ، لا قَبْلُ لا بَعْدُ
وَما زِلْتُ طَوَّافًا بِرَبْعِكِ مُؤْمِنًا.. بِأَنْ يَجْمَعَ اللهُ الشَّتيتَيْنِ يا وَرْدُ
وَها عُدْتُ هَيَّا فَالبِلادُ فَسيحَةٌ.. وَحُقَّ بِهذا الدَّهْرِ يَجْمَعُنا السَّعْدُ
أَتَيْتُكِ وَالأَشْواقُ ما قَدْ عَهِدْتِها.. فَهَيَّا انْهَضي يا عَبْلَ قَدْ آنَ أَنْ نَشْدو
وَآنَ لَنا بَعْدَ التَّشَتُّتِ لَـمَّةٌ.. تَدومٌ بِلا خَوْفِ الوُشاةِ وَمَنْ صَدُّوا
فَرُدِّي لِأَشْعاري عُبَيْلَةَ عَنْتَرٍ.. وَرُدِّي لِحُبِّي ما يَزيدُ بِهِ الشَّهْدُ
وَقامَتْ عُبَيْلُ الرُّوحِ تَسْنُدُها يَدي.. وَغابَتْ وَقَدْ هاجَ العِناقُ لَهُ مَدُّ
أَرادوا شَتاتَ العاشِقَيْنِ فَأَصْبَحوا.. أَيادي سَبا سُكْناهُمُ الرِّيحُ وَالجُرْدُ
وَإِنْ كانَ عُرْفُ القَوْمِ يَمْنَعُ صَرْفَنا.. تُسانِدُهُ في الـمَنْعِ أَلْسُنُنا الصُّلْدُ
فَذي جَنَّةُ الصَّحْراءِ باكَرَها الحَيا.. تُعينُ عَلى صَرْفٍ وَتَمْنَعُ ما حَدُّوا
بَكَيْنا مَعًا أَطْلالَ قَوْمٍ تَناثَرَتْ.. كَما نُثِرَتْ في الرِّيحِ أَغْبِرَةٌ رُبْدُ
وَفي الحِضْنِ فَوْقَ الطِّرْفِ كانَتْ عُبَيْلَتي.. تَجودُ صَريحَ الحُبِّ وَالصَّهْوَةُ الـمَهْدُ
بقلم: محمود مرعي