عن السفاهة والسفيه
تاريخ النشر: 20/06/17 | 17:09السفاهة نقيض الحلم، وتعني الجهل، والطيش وخفة العقل.أقدم لكم هذه الجولة بعد أن طما الخطب فينا واستفحل، وأخذنا نفيق على مصرع رجل هنا، أو قتل فتاة هناك، يطلقون النار بيننا، حتى اعتدنا على الأخبار السيئة، وانعدمت الحيلة.فأي طيش وأية سفاهة بعد هذا؟
السفاهة طاغية مستبدة، ولا من يوقفها، لا دين ولا عادات ولا سلطة ولا أحد، والسفيه منا يسلك فينا شططًا!..
أقول كما ورد في الذكر الحكيم على لسان موسى- مخاطبًا المولى عزّ وجلّ:{أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}- الأعراف، 155.
ها نحن نُبتلى في مجتمعنا بسفهاء وأدنياء، ونقف وقفة المتفرّج، هؤلاء الأبطال الذين يستسهلون قتل الإنسان- كأنما قتلوا الناس جميعًا، يقتلونه وضياع أحلامه وطموحاته وبناء عائلته، بضغطة على الزناد أو بطعنة يصبح الضحية في عدم، ونصبح نحن في ألم الألم.
لا يتوقعن قارئي أن آتي له بالحلول، فقد عزّت، فنحن مجتمع بدون روابط عائلية ملزمة، وبدون شرطة متابعة، وبدون أخلاق رادعة، والكل “عايش على أعصابه”.فرحمة بنا يا ربَّنا!
يظل الغضب هو سبب السلوك السفيه، وحتى نكظم الغيظ لا بد من نأتزر بالصبر وسعة الصدر.فالسفيه هو ذلك الإنسان الناقص العقل، الذي يتجرأ على الآخرين إولاً بالشتم المقذع، ويتهجم بلا سبب، وربما بالضرب، ويطلق الكلام القبيح بسهولة، فهو إنسان يفقد إنسانيته، بل غدت الإنسانية لديه اليوم تنعَى حظها.
إلى مثل هؤلاء يقول علي – كرم الله وجهه-:
يخاطبني السفيه بكل قبــــــــــــــح *** فأكرهُ أن أكونَ له مجــــــــيـــــــبـــا
يَزيد سفاهةً فأزيد حِـــــــلـــــــــــمًا *** كعُود زاده الإحراقُ طيبـــــــــــــــــا
فلا غضاضة أحيانًا إن كففنا عن أذى هذا السفيه، وألا نرد عليه، فهل نتصدى لكل خطأ، وهي كثيرة وفيرة- ما شاء الله في هذا العصر الأغبر؟! أنشد الشاعر محمود الورّاق:
رَجَعْتُ عَلَى السَّفِيْهِ بِفَضْلِ حِلْمٍ *** وَكَانَ الْفِعْلُ عَنْهُ لَهُ لِجَاما
وَظَنَّ بِيَ السَّفَاهَ فَلَمْ يَجِدْنِي *** أُسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلاَمَا!
فَقَامَ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيْلاً *** وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَمَّةَ وَالْمَلامَا
وَفَضْلُ الْحِلْمِ أَبْلَغُ فِي سَفِيْهٍ *** وَأَحْرَى أَنْ يَنَالَ بِهِ انْتِقَامَا
في هذا النص يذكرنا الشاعر في عجز البيت الثاني بالآية الكريمة، حيث يرِد فيها- {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًَا!}الفرقان، 63- فما أروع!السفيه إزاء هذا الحِلم والدَّعة، ونشدان السلام- قد يخفف من غلوائه، فالسكوت عنه يجعله في حَيرة من أمره، لأن السفيه كالنار وقوده الرد عليه، فيزداد سفاهة على سفاهة!
فهل نستطيع الامتناع عن مجابهة هذا الظالم بالتي هي أحسن، وقدر المستطاع، وبضبط أعصاب حتى ولو إلى حين، أي حتى يُطفأ الحريق، وحتى نهدأ، فلعل حلاً آخر يكون أعقل وأمثل.يقول أبو الأسود الدؤلي: وإذا جريتَ مع السفيه كما جرى *** فكلاكما في جريه مذمومُ
يقول المتنبي بيتًا فيه دلالة على خطورة السفهاء، بل يذكرنا بقتل أناس أبرياء بسببهم خطأ أو عمدًا: وجُرْم جَرَّهُ سفهاءُ قوم *** فَحَلَّ بغير جارمه العقابُ
فإن السفيه قد يجر على أهله وقومه ومجالسيه المصائب، وقد يثير العداوات والحروب والفتن، والحبل جرار. وهنا أستذكر قول المتنبي مرة أخرى:”ومكايد السفهاء واقعة بهم”.
في باب آخر:من السفاهة كذلك ادعاء من لا يعلم بأنه في العلم قدير، دون هدى ولا كتاب منير، فالتعالم آفة جارية، فمن الناس من لا يعلم ويحسب أنه يعلم، يهرف بما لا يعرف، يتكلم ويجادل فيما لا يحسن ولم يقرأ، ويصرّ على رأيه، فلا يثوب إلى رشده. وأمرك لله!بل هو لا يعقل كلام من يناقشه، يقف على رأيه، وكأن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.وهكذا يظن هذا أنَّه العاقل وغيره الجاهل، وأنه الألمعي وغيره الغبي .
فالسفيه لا يقبل كلام من يرشده، ولا يقبل أن يصحح خطأه.
وصدق الشاعر:إذا غلب الشقاء على سفيه *** تنطع في مخالفة الفقيه
ومجاراة هؤلاء في النقاش الحاد قد يؤدي إلى عداء.
من جهة أخرى، هناك السخيف الذي يختلف في معناه عن السفيه:
أما (السخيف) فلا يعتدي بساقط القول، ولكنه يتحدث بكلام لا فائدة منه ولا لون له ولا طعم، فضد السخيف هو الرصين، وضد السفيه هو العاقل الحكيم.مما أفدت من قراءاتي كذلك- أن السخيف فارغ من الداخل تافه الاهتمام والكلام والعمل، فهو لا يضرّ ولا ينفع ولكنه سمج، أما السفيه فهو يضر مخالطيه بطول لسانه وسوء كلامه وقبح جوابه.(قد يكون السفيه صغيرًا في السن لم يتلق تربية حسنة ولم تنضجه الأيام، ولم يعرف أقدار الرجال وأصول الاجتماع، ولكن الأيام ستصقله).
يظل الذكر الحكيم موجّهًا لنا لو تبعناه في هذا القول الرائع:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}- الأعراف، 199.
الشاعر حل المشكلة بالقول، ولكن، هل حقًا يستطيع هو أن يكون حليمًا هادئ الأعصاب منضبطًا وباستمرار؟
وإن بليت بشخص لا خلاق له *** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
فإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا *** لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق
وقول شاعر آخر:
وقالوا: فلان في الورى لك شاتم *** وأنت له دون الخلائق تمدح
فقلت: ذروه ما به وطباعَه *** فكل إناء بالذي فيه ينضح
والسؤال: هل نستطيع أن نكظم الغيظ؟
ب. فاروق مواسي