زيارة مفاجئة لمَغارة المضعّفة
تاريخ النشر: 29/06/17 | 11:03في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة التي كتبها الكاهن خضر (فنحاس) بن إبراهيم بن خضر الحفتاوي (١٩٢٣-١٩٩٢، كاهن الطائفة السامرية في نابلس في السنوات ١٩٦٤-١٩٦٧ ثم في حولون في السنوات ١٩٦٧-١٩٩٢؛ شاعر وعالم بالشريعة) بالعبرية، ونقّحها وعدّل في أسلوبها بنياميم صدقة.
نُشرت هذه القصّة في الدورية السامرية أ. ب.-أخبار السامرة، عدد ١٢١٩-١٢٢٠، ١ تموز ٢٠١٦، ص. ٥٩-٦١. هذه الدورية، التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها؛ إنّها تستعمل أربع لغات على الأقلّ، بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور، منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري. زد إلى ذلك، هناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة ترزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”علاقة الاحترام والإجلال والنعمة والكرامة، التي أشعر بها إزاءَ ثلاثة الآباء الأبرار، إبراهيم وإسحق ويعقوب، ليست وليدةَ اليوم، إنّها في دمي. رضعت ذلك مع حليب أمّي، وعبْر عصا أبي الليّنة، في خلال تعلّم قراءة التوراه منه. هل تعلم؟ إنّ مَغارة المضعّفة (مكفيله بالعبرية ammåkfēla، المزدوجة، مدفن الآباء في الخليل؛ أنظر سفر التكوين ٢٣: ٩، ١٩؛ ٢٥:٩؛ ٤٩: ٣٠؛ ٥٠: ١٣) في الخليل، هي أحد الأمور التي تشهد على وجودنا في هذه الأرض المقدّسة. هذا تقليد عريق، مارسه آبائي وآباء آبائي، كانوا يستغلّون الأيّام التي بين عيد الفسح وعيد الأسابيع/العنصرة، لزيارة قبر يوسف في نابلس، وقبور الكهنة الكبار، ومَغارات الشيوخ في عورتا، قبري يهوشع بن نون وكيلڤ بن يفونه في كفل حارس ومَغارة المضعّفة في الخليل.
زرتُ هذه الأماكن مرّاتٍ كثيرة، ودائمًا برفقة أصدقائي أو أفراد أُسرتي. عندما تزور أحد هذه الأماكن، أو كلّها تنتصب أمام عينيك جميعُ قصص التوراة. وأودّ أن أذكر أيضًا، قبر أهرون بن عمران (عمرم)، شقيق النبي موسى، في جبل هور (أنظر مثلا: سفر العدد ٢٠: ٢٣) في طرف أرض أدوم. ولكن لي عَلاقة خاصّة بزيارة مَغارة المضعّفة، فهناك قبور الأوائل، آباء الأمّة الإسرائيلية، من نحن وما نحن، سوى أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب. عَلاقتي الخاصّة هذه، انبثقت في العقود الأربعة الأخيرة. إنّي ابن اثنين وستّين عامًا تقريبا اليوم [١٩٨٥]. أعتقد أنّ سبب ذلك نابعٌ من الحقيقة، أنّ زيارة قبور الآباء بالذات، كانت دومًا غير سهلة مقارنة بقبور أخرى.
كانت هناك سنون لم يُسمح قطّ لغير المسلم بالزيارة. أودّ أن أقصّ عليك عن إحدى هذه الزيارات. ولكن أوّلًا أريد أن أصف لك الفرحة في زيارة هذا المكان بعد حرب ١٩٦٧ فورا. دعاني سامريو حولون بعد الحرب للانتقال من نابلس إلى حولون لخدمتهم في الكنيس إذ لم يكن هناك كهنة قبل العام ١٩٦٧، اختاروني كاهنًا لهم وعرضوا عليّ منزلًا وراتبًا محترمًا، وافقتُ وجئتُ.
أحد الأيّام السعيدة في حياتي كان تحقيق أمنيتي في زيارة مَغارة المضعّفة بدون أي مانع؛ حجز هنا في حولون شخص ما حافلة. اشترك في الرحلة شباب كثيرون، قسم كبير منهم ما كان في الخليل قطّ. جمُل استغلال هذه الحقيقة لإطلاعهم على أحد أهم المواقع في التاريخ المجيد لشعبنا.
حينما دخلنا المكان شعرنا بلمسة من التأثر والإعجاب، شعور رائع. لم يسألنا أحد في المدخل عن وٌِجهتنا ولم يوقفنا أحدٌ أيضًا عند الدرجة السابعة، مقابل الثَقْب في الجدار حيث سُمح لليهود دسُّ طِلباتهم من الآباء الثلاثة، إلى المَغارة التي في الأسفل. صعِدنا الدرجاتِ ووصلنا إحدى القاعات الثلاث التي تحتوي على شواهد قبور الآباء. المكان كان يعِجّ بالناس. يهود بشراريب طويلة كانوا متّكئين على السياج المحيط بالشاهد، يتحرّكون بتفانٍ وبعيون مُغمضة وبأفواه تلهج كلّها بالصلاة.
عندما تناهى إليهم خبر قدوم المجموعة، كاهن سامري ومعه رجال ونساء من السامريين، أُخْليت قاعة القبر حالًا وأصبحت تحت تصرّفنا. أوقفتُ جماعتي من حول الشاهد، ومعًا بدأنا بصلاة نقيّة لذكرى الأباء المقدّسين. صلّينا ”قطف الأبرار“ [קטף הזכאים، مقتطفات من التوراة، محورها العهد والقسم ما بين الله والآباء، تُقرأ كلّ سبت وعيد وفي كل قديش على الموتى؛ مدح الله وطلب العفو] وأنشدنا بعض القصائد الدينية (پيوطيم). كان هذا اليوم رائعًا، لا نظير له، لن أنساه طيلةَ حياتي. أذكر أنّني حتّى بعد شهر من الزيارة، لم تهدأ بعد نفسي من الزيارة المؤثرة.
وهذا بالطبع، يذكّرني بزيارة سابقة، في ظروف مختلفة تماما. حدث ذلك قبل حرب ١٩٦٧ ببضع سنوات. حتّى تلك الزيارة مضت فترة طويلة، ربّما من بدايات خمسينات القرن العشرين، منذ أن زرت مَغارة المضعّفة، وربّما كان ذلك نابعًا من المعرفة أن الدخول مسموح للمسلمين فقط. أشواقي تواترت عليّ، تمنطقت بالشجاعة، اخذتُ ولديّ الكبيرين معي، إبراهيم وضياء (يئير) وسافرنا من نابلس إلى الخليل. وصلت بوابة البناية الضخمة حيث المَغارة وفي قلبي خوف ما. وضعت عِمامة حمراءَ على رأسي، وهي كشفت هُوِيّتي من بعيد، لا مجال البتّة للافتراض بشخص مسلم.
عند البوّابة أوقفني شيخان مسلمان كانا، على ما يبدو، مسؤولين عن المكان. سألاني، مَن أكون، وأجبت أنّني من كهنة السامريين. نحن نؤمن بالآباء ونريد زيارة قبورهم، فهذا تقليد عندنا. أحد الشيخين حاول منعنا من الدخول ولكن الشيخ الثاني، الأكبر سنًّا، نظر نظرة مودّة نحوي وقال: أنت لستَ مسلمًا إذن، ولكن هل لديك وثيقة تشهد على جنسيّتك الأردنية؟ ּּأَريتُه جواز سفري، فحصه جيدًّا ووجد في خانة الدين: سامري، ابن ديانة موسى. أشار عليّ بيده للدخول إلى المَغارة ففعلت حالا.
كان ذلك دخول وأيّ دخول، زيارة وصلاة لن أنساهما أبدا. عند خروجي، أوقفني الشيخ ثانية عند البوابة، وبدأ يجادلني حول مكان قبر يوسف. في مَغارة المضعّفة، يشيرون إلى شاهد، ويدعون أنّه مكان قبر يوسف. بطبيعة الحال لا ذرّة من الصحّة في ذلك. شرحت له، على ضوْء ما ورد في التوراة، أنّ يوسف دُفن في نابلس، والمسلمون والسامريون يقدّسونه هناك. عندما اتّضح لي، أن لا حياة لمن تنادي، وأنّ الشيخ اشتاط غيظًا أكثر فأكثر، ودّعتهما وسرتُ في طريقي. اصطحبت ولديّ بيديّ للوصول سريعًا إلى محطّة سيّارات الأُجرة إلى القدس. لو استمرّ الجدال لاعتقلاني. ولكن، شيء واحد لا أفهمه حتّى اليوم، ما الذي دفعهما للسماح لي بزيارة المَغارة، إذ أنّها مقتصرة على المسلمين. قد تكون يد الله في الأمر، والله أرشدني إلى طريق الحقّ وعمل مشيئته وتحقيق رغبتي. ما زال الاستغراب يرافقني حتى اليوم.“
ترجمة حسيب شحادة – جامعة هلسنكي