فضل الصمت والسكوت
تاريخ النشر: 07/07/17 | 0:09فالصمتُ سمةٌ من سماتِ المؤمنين، وصفةٌ من صفاتِ العقلاءِ المُفكّرين، أوصى به الإسلام،
فمن نصائحِه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه لأبي ذر(عليكَ بطولِ الصمتِ، فإنَّه مُطردةٌ للشيطان، وعونٌ لك على أمرِ دينِك)
وقالَ تعالى(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)
فينبغي للعاقلِ المُكلّفِ أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه،فالإمساك عنه أفضل، لأنه قد يجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه،
فعن أبي هريرة،رَضِيَ اللهُ عَنْه،عن النبي،صلى الله عليه وسلم،
قال(من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فمن نطق في غير خير فقد لغا، ومن نظر في غير اعتبار فقد سها، ومن سكت في غير فكر فقد لها،
إن اللسان السائب حبل مرخيٌّ في يد الشيطان، فإذا صمت ولم يتكلم كان من أهل الجنان، وإذا تكلم وجَّهَهُ الشيطان كيف يشاء، ومتى أراد،
يقول الرسول،صلى الله عليه وسلم(لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)
إن الكلمة أحرف ينطق بها اللسان، يوزن بها الإنسان، فالمرء مخبوء تحت لسانه، فهو في حال صمته يعسر الحكم عليه، فإن تكلم ظهر أمره وبان، وعُرفت شخصيتُه من خلال اللسان،
إن كان فارغاً أو كان ذا قدر وشأن،
وقد جاء في الأثر،إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان،فتقول له،اتق الله فينا فإنما نحن بك،إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا،
إن الشيء الكامن في النفس يظهرُ على صفحات الوجه وفلتات اللسان، فالعاقل هو الذي يتحرى الكلمة قبل أن ينطق بها،فما أحسن حفظ اللسان،والإنسان لو حفظ لسانه ما هلك،
إن المؤمن الصادق هو الذي يعيش في حذر دائم من فلتات لسانه فيجعل عمله كثيراً، وكلامه قليلاً، وذلك خيرٌ له، فكثير الكلام يندم على كثرة كلامه، ولن يندم صامت على صمته في الغالب، فالعمل يكثر أو يقل بمقدار كثرة الكلام أو قلته، فكثير الكلام قليل العمل، وقليل الكلام كثير العمل، فعلى المؤمن إن تكلم أن يتكلم بما يعود بالفائدة عليه، وعلى مجتمعه ووطنه،
قال لقمان لابنه(يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك)
وروي عن النبي،صلى الله عليه وسلم،أنه قال(رحم الله من قال خيراً فغنم، أو سكت فَسَلِم)
إن الكلام التافه مضيعة للعمر، وهدرٌ للوقت، في غير ما خلق الإنسان له من جِدٍ وإنتاج،فإن تكلّم المرء فليقل خيراً، وليعودِّ لسانه الجميل من القول، فإن التعبير الحسن عما يجول في النفس أدب عال أدب الله به عباده المؤمنين، قال تعالى(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً)
إن لصاحب الكلمة الطيبة مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند الله وعند الناس، فهو عند الله في جنات ونهر، لأنه لا يتكلم إلا بما يُرضي ربّ البشر، وهو عند الناس كالنبراس يضئ لهم طريق حياتهم، فيأتون إليه، ويثقون فيه ويستنصحونه، فيكون من عناصر الصلاح في المجتمع، وما ذلك إلا لكلماته الطيبة، وتعبيراته اللطيفة،
يقول الرسول،صلى الله عليه وسلم( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)
ويقول تعالى(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)
وأما الجاهل الشرس الطبع الذي لا تُلزمه المكارم مروءة، فإنه لا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالاً يُشبع فيه طبيعته الجهول، وقلبه الحاقد المغلول، انطلق على وجهه لا ينتهي له صياح، فالواجب أن لا يؤخذ بكلامه ولا يُعوّل على أقواله، فالاستماع إليه في ميزان الإسلام غير مرغوب، وإن كان الإنصات لكلامه مطلوباً، لوجوب حسن الخلق مع الجميع، فعن أم المؤمنين عائشة،رضي اللهُ عنها،قالت،استأذن رجل على رسول الله،صلى الله عليه وسلم،فقال(بئس أخو العشيرة هو)فلما دخل انبسط إليه وألان له القول،فلما خرج قلت،يا رسول الله، حين سمعت الرجل قلت،كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه،فقال(يا عائشة متى عهدتني فاحشاً،إن من شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)
قال بعضهم،إذا جالست الجهال فأنصت لهم، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم، فإن في إنصاتك للجهّال زيادة في الحِلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم،
ويروى عن النبي،صلى الله عليه وسلم،أنه قال(لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إلى قلبه، فإن كان له تكلم، وإن كان عليه أمسك،
وقلب الجاهل من وراء لسانه يتكلم بكل ما عرض له)
إن الإنسان لو شغل بتأديب كل جهول يلقاه لأعيته الحيل من كثرة ما سوف يلقى، ولذلك عد القرآن الكريم في أوائل الصفات التي تحلى بها عباد الرحمن هذه المداراة،
قال تعالى(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)
إن حد الصمت والكلام المطلوب أن تتكلم فيما يعنيك، فإن سكت عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال ولا مآل، وأساس ذلك كله أن تعلم أنك مسؤول عن كل كلمة،محاسب على كل لفظة، يقول الله تعالى(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً)
فعلى المؤمن أن يجعل لسانه مصدر خير، وأن يعوده القول الحسن الجميل، الذي يُعمر ولا يدمر، ويبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق،
وتخلقوا بخلق الصمت،وتكلموا بقدر،فإن كلام المرء بيان لفضله، وترجمان لعقله، فاقصروه على الجميل، واقتصروا منه على القليل، وصونوا أوقاتكم وعمروها بذكر الله الحميد المجيد، وكل قول سديد،
على الإنسان أن يراعى مخارج كلامه، بحسب مقاصده وأغراضه، فإن كان ترغيباً قرنه باللين واللطف، لا بالخشونة والعنف،وإلا فالصمت أولى،
وأوصى رجل ابنه فقال،يا بني إن كنت في قوم فلا تتكلم بكلام من هو فوقك فيمقتوك، ولا بكلام من هو دونك فيزدروك،إن المؤمن الذي يمسك لسانه عن فضول الكلام يدخل الجنة بسلام، فمن وسائل النجاة في الدنيا والآخرة الصمت وحفظ اللسان،
سأل عقبة بن عامر رسول الله،صلى الله عليه وسلم،ما النجاة،قال(أمسك عليك لسانك،وليسعك بيتك)
وفى شروط الكلام يقول الماورديّ،وهي أربعة،
الشّرط الأوّل،أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إمّا فى اجتلاب نفع، أو دفع ضرر،
الشّرط الثّاني،أن يأتي به في موضعه، ويتوخّى به إصابة فرصته،لأنّ الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به،
الشّرط الثّالث،أن يقتصر منه على قدر حاجته،فإنّ الكلام إن لم ينحصر بالحاجة،ولم يقدّر بالكفاية،لم يكن لحدّه غاية، ولا لقدره نهاية،
الشّرط الرّابع،اختيار اللّفظ الّذي يتكلّم به، لأنّ اللّسان عنوان الإنسان، يترجم عن مجهوله،ويبرهن عن محصوله،
ومن آداب الكلام،أن لا يتجاوز في مدح، ولا يسرف في ذمّ،وأن يراعي مخارج كلامه بحسب مقاصده وأغراضه، فإن كان ترغيباً قرنه باللّين واللّطف،وإن كان ترهيباً خلطه بالخشونة والعنف،
من فوائد (الصمت وحفظ اللسان)
دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلام،
دليل حسن الخلق، وطهارة النّفس،ويثمر محبّة الله، ثمّ محبّة النّاس،والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار،
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً،وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً،وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.