دوائرُ
تاريخ النشر: 12/07/17 | 4:48إلى أخي الرّاحل، الدكتور أديب جرّار
*****
دوائرُ، دوائرُ؛
سُلَّمٌ حجَريٌّ عتيقٌ، نمَّشَتْهُ ثقوبُ الوَقْتِ، يتسلّقُ إلى بابِ جامعِ الجزّار، أمامَ حجَارةٍ عضَّها بحرُ عكّا، خلفَ باعةِ الفُولِ والتّاريخ.
نهرُبُ في هذا القيظِ المطّاطيّ، مثلَ دُخانِ سيجارتَيْنا، من مُحاضرةٍ بلغةِ “دون كيخوته”، يُلقيها مُرشدٌ أسمرُ بطاقيّةٍ تشبهُ طبَقًا، ونقتفي ظلًّا يسقطُ سَهوًا من شجرةٍ تشربُ الأذانَ، قطرةً قطرَةً، وتحفظُ الكتابَ عن ظهرِ قلبٍ.
و”حيفا ليسَتْ قرطبة”(1) وعكّا ترى غرناطةَ في مرآتِها.
يقولُ لي صاحبي، بصوتٍ يُشبِهُ الثَّلجَ: أَما زلتَ تبحثُ عن الفضائيّين، الذين خرجوا من أوراقِ إميل حبيبي(2) بعيونٍ تشبهُ المَنارات، ثمّ انطلَقوا من الحاضر المُرِّ إلى ماضٍ مُعَسَّلٍ، ولمّا يعودوا إلى مستقبلٍ لم يعُدْ في انتظارِهم؟
أقولُ: بل أبحثُ عن صديقي أديب. تركَني هُنا، منذ أربعين عامًا، في تجاعيدِ المكانِ، ومضى.
هناكَ التقَيْنا كهلًا في عمرِ أبناء نوحٍ، كان يُلقي الكلامَ مثلَ آلةِ تسجيلٍ، على حفنةٍ من السُّيّاح والسّائحات المُدجّجين بالآهِ والدّهشةِ وأقمشةٍ تستردُّ الاحتشام. قصَّ علينا، بالإنجليزيّة، بلهجةِ أهلِ الجاهليّة، حكايةَ ثلاثِ شعراتٍ مُقدّسةٍ وحكاياتِ الأنبياء والأولياء والأشقياء، فشَرِبْنا البحرَ بالشّوكةِ(3) وكسَرْنا نابليونَ مرّةً أخرى.
وكانَ أديبٌ يحملُ عكّا ويدورُ في شقوقِها. رطوبةٌ تلعَقُ الأسوارَ مثل ذئبٍ جائعٍ، وشمسٌ تُلوِّحُها. في شارع المتنبّي، قربَ وردةٍ مدَّت لسانَها، نسمعُ أغنيةَ “روك أند رول” بصوتِ ريتشارد قلب الأسد(4)، ثمّ نأكلُ أصابعَنا وصحنيَّ حمُّص في مطعم “أبو الياس”، وندخلُ في ظلِّ الحِجارةِ التي فقدَت وجوهَها.
وأديبٌ حاضرٌ، في الأزقّةِ وسُمرةِ الصّيّادينَ ورائحةِ الأسماكِ ونخلةٍ تُطلُّ من سقفِ زاوية صوفيّة. نسبَحُ في العَرَقِ الصّاعدِ منّا. من سجن عكّا يطيرُ النّشيدُ، جنازاتٍ وأعراسًا، ومريمُ السّمراءُ ترتدي اللّيلَ في النّهار، وتشتُمُ تحتَ القناطرِ المصابةِ بالإعياء، الجيوشَ التي حاصرَتْها من البَرِّ.
أقولُ لَهُ: لا تُحمِّلْ قلبَكَ ما لا يحتَمِلُ.
فيصيرُ قافلةً من النَّملِ، تحملُ حقلًا من القمحِ، وتُطعِمُ الفقراء.
وأقولُ: أغمض جفنَيْك، يا أديب، فالعينُ تدمى حين تقاومُ مخرَزًا.
فيصيرُ عنقودًا من النُّحلِ، ويفيضُ شهدًا على الشّفاه.
ثمّ يعيدُني صاحبي إليَّ؛
سلَّمٌ حجريٌّ، مثقوبٌ بالوقتِ، يهبطُ من بابِ جامع الجزّار إلى فضاءٍ يضيقُ. وفي الغَربِ، فوقَ هديرِ البَحرِ، أرى أديبًا عائدًا من باريس، يحملُ عكّا إلى عكّا، تلفُّهُ غمامةٌ بيضاء، في شكلِ شُرفَةٍ للوَطَن.
إضاءات:
*الدكتور أديب جرار (علم النّفس)، ابن عكّا. حملَها معه في ترحالِه في كلّ الجهات. ووافتْهُ المنيّةُ، عن عمرٍ يناهز ستّين عامًا، إثرَ عمليّة جراحيّة في القلب في العاصمة الفرنسيّة باريس. فعادَ بعكّا إليها. والصّورة المرفقة هي لباحة مسجد الجزّار، يوم 7.7.2017، قبيل تشييع جثمان الدكتور أديب.
(1) “حيفا ليست قرطبة” كتاب المرحوم الدكتور شوقي قسيس (ابن قرية الرّامة، الجليل)، الذي وافته المنيّة في المهجر حين كان يستعدُّ للعودة إلى مسقط رأسه.
(2) كتابُ الأديب الرّاحل إميل حبيبي الشّهير “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل”.
(3) يقول أهل عكّا، تحدّيًا ولكن بلهجةٍ لا تخلو من الدُّعابة، إنّهم يشربونَ ماءَ البحر بالشّوكة، تمثيلًا على قدراتِهم.
(4) قائدٌ صليبيٌّ شهير (ملك إنجلترا) اشتُهرَ بالمجازر التي ارتكبها في عكّا.
بقلم: فريد غانم