الشيخ لا يترك أخلاقه
تاريخ النشر: 12/07/17 | 11:30جولتي اليوم حول ما قيل شعرًا عن الشيخ الهرِم- هل يمكن أن يطرأ عليه تغيير في سلوكه؟
أسأل ونحن نقول في المثل: من شبّ على شيء شاب عليه.
سنرى كيف عالج الشعراء هذه الجزئية:
قال صالح بن عبد القُدّوس:
والشيخ لا يترك أخلاقه *** حتى يُوارَى في ثرى رمْسه
إذا ارْعَوى عاد إلى جهله *** كذي الضَّنى عاد إلى نُكسه
إذن هو لا يغيّر ولا يبدّل في تصور الشاعر، وهذا الرأي القاطع كان سببًا في قتله:
“أخِذ صالح بن عبد القدوس في الزندقة، فأدخِل على المهدي، فلما خاطبه أعجب به لغزارة أدبه وعلمه وبراعته وبما رأى من فصاحته وحسن بيانه وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله.
فلما ولّى رده، وقال : ألست القائل :
والشيخ لا يترك أخلاقه *** حتى يوارَى في ثرى رمسه
قال: نعم، يا أمير المؤمنين.
قال: وأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم في نفسك بحكمك، فأمر به، فقتل.
(الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، ج9، ص 303 وعن قصة مقتله انظر كتاب: عباس الترجمان- صالح بن عبد القدوس- حياته وشعره، دار الجمل، ص 44- 47، فثمة مراجع كثيرة حول الموضوع وروايات متباينة؛ وقد ورد في الأغاني- ج 14، ص 176 أن الذي أعدمه هو الرشيد قائلاً له: “إنما زعمت ألا تترك الزندقة ولا تحول عنها أبدًا”.)
عَود على بَدء:
أنشد مالك بن دينار:
وترُوض عِرسَك بعدما هرمت *** ومن العناء رياضةُ الهرِمِ
فهو لا يريد منا أن نتعب أنفسنا، فما كان كان، والله المستعان.
كنت حدثتكم عن أم ثواب الهِزانية التي كانت تشكو ابنها العاقّ الذي يحاول أن يغيّر من سلوكها: “أبعد شيبيَ يبغي عندي الأدبا”؟
فسلوك الكبير مبني على ما سلكه ومر به من تجارب، فمن العسير أن يسلك سلوكًا مغايرًا، وفي ذلك يقول المخبَّل السعدي:
إذا المرءُ أعيته المُروءة ناشئًا *** فمطلبها كهلاً عليه عسير
في المقصورة الدرَيدية حِكم كثيرة جدير أن نوليَها الاهتمام، وفي هذا الباب يقول ابن دُرَيد:
والشيخ إن قوّمتَه من زَيْغه *** لم يُقِمِ التثقيفُ منه ما انحنى
كذلك الغصنُ يسيرٌ عطفُه *** لدْنًا، شديدًا غَمزُه إذا عسا
وهذا البيت الثاني قال على غِراره الشاعر سابِق البربري (من شعراء العصر الأموي، وله أبيات كثيرة في الحكمة):
قد ينفع الأدبُ الأحداثَ في مهل *** وليس ينفعهم من بعده أدبُ
إن الغصونَ إذا قوّمتَها اعتدلتْ *** ولنْ تلينَ إذا قوّمتَها الخُشُـبُ
وفي ديوان الإمام علي نقرأ:
حرِّض بنيكَ على الآداب في الصغر *** كيما تقرُّ بهم عيناك في الكبر
فإنما مَثَلُ الآداب تجمعها *** في عُنفوان الصِّبا كالنقشِ في الحجر
مع ذلك فهناك من له رأي آخر:
ورد في كتاب الراغب الأصفهاني- (محاضرات الأدباء)، ج1، ص 46 موضوع “فضل التعلم في الكبر”، فيقول:
“قيل لأنو شروان: أيحسن بالشيخ أن يتعلم؟
قال: إن كانت الجهالة تقبح منه، فالتعلم يحسن به.
قيل: وإلى متى يحسن منه؟
قال: ما حسنت به الحياة.
وقيل لحكيم: ما حد التعلم؟ قال: حد الحياة- أي يجب له أن يتعلم ما دام حيًا”.
في هذا السياق سأقف على قول علي- “في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر”، ويبدو لي أن قوله هو أساس المثل:
العلم في الصغر كالنقش في الحجر!
نعم أن النقش على الحجر صعب، ولكنه يبقى ويبقى أثره، فهل النقش في الكبَر يكون كالنقش على الماء؟
نقش الحجر- يُضرب مثلاً لما يثبت ويبقى لا يضمحلّ.
ورد المثل في كتاب الجاحظ (البيان والتبيين، ج1، ص 257): “التعلم في الصغر كالنقش في الحجر”- حيث ورد القول على لسان الأحنف وقد سمعه من رجل.
في (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري، ورد في مادة المثل:
“أبقى من حجر، وأبقى من وحي في حجر
وكان عرب اليمن تكتب الحكمة في الحجارة طلبًا لبقائها.
والناس يقولون: التأديب في الصغر كالنقش على الحجر”.
وورد في مصادر أخرى:
“العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالنقش على الماء”
وفي (المحاسن والأضداد) للجاحظ: “…. والعلم في الكبر كالعلامة على المدر”.
المفاجئ أن يتصور بعضهم أن هذا القول هو حديث شريف!!!
في (المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة) للبيهقي (حديث رقم 673) أقتبس لكم ما يلي:
“(حديث مرفوع) حَدِيثٌ: “الْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ” ، البَيهقي في المدخل من جهة يزيد بن معْمر الراسبي سمعت الحسن هو البصري، يقول: فذكره من قوله، وأخرجه ابن عبد البَر من جهة من لم يسمَّ عن معبد عن الحسن، بلفظ: طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر، ورواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن أبي الدرداء مرفوعا بلفظ: مثل الذي يتعلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم في كبره كالذي يكتب على الماء”.
ثمة مصادر أخرى أوردت المثل وناقشت مسألة كونه حديثًا، فذكرت أنه ضعيف.
ب. فاروق مواسي