الرفق بالانسان
تاريخ النشر: 11/07/10 | 4:16بقلم: الاستاذ المربي فؤاد كبها
حدثني احد أفراد قريتي الصغيرة ما يلي: كنت في الثانية عشرة من عمري، كان ابي يعمل في مجال الزراعة، وقد اقتنى اكثر من مئة راس من الغنم عندما كان الوالد شابا يافعا في سنوات الاربعين، واعتنى الوالد في تربية المواشي الماعز والتجوال مع القطيع في الجبال والوديان التي تحيط قريتنا الصغيرة خور صقر ووادي القصب وقرية المعلقه. مثل جبل العريان ومنطقة النتاشة والروحة والقعدة ومنطقة السهل، وخور البرزة، والشرايع، والوعرة القريبة من قريتنا، وقرية عين السهله التحتى. وفي هذه الفترة كانت المراعي متوفرة قبل غرس هذه الجبال والوديان والسهول في الاشجار الحُرجية.
واضاف قائلاً هذا الرجل الذي كان في سن الصبا:
هذه المناطق التي تحيط القرية وطئتها اقدام والدي مع قطيعه الذي كان مصدر رزق لنا العائلة، كما هو الحال لاغلبية رجال القرية الصغيرة.
قال لي المتحدث: كان البرنامج بالنسبة له مقسما الى قسمين، القسم الاول، الدراسة الابتدائية من الصباح حتى الساعة الثانية بعد الظهر، والقسم الثاني استلام الصولجان او العصا واللحاق بالقطيع بدلا من الوالد الذي كان عليه ان يخلد الى الراحة بعد الظهر، بعد الكر والفر وعملية ري الاغنام في منطقة العين شرقي البلد وانتشال الماء بواسطة الحبل والدلاء وسكب الماء في الجابية المنحوتة من الصخر، وهي عبارة عن صخرة كبيرة قاعدتها مسطحة مستقيمة ووجهها الى الاعلى تفتح فاهها الكبير لسكب الماء في جوف الجابية او اران ( المجمع المائي الصخري الصغير) لتأتي بسرعة من شدة العطش زرافات زرافات، لتقف بصورة هلال ولتشرب بسرعة الماء العذب الذي اضيف له بعض النقاط من القطران في الجابية او الران، لاسباب صحية تتعلق بتربية المواشي وقتل الجراثيم من الماء او مساعدة المواشي على الهضم، وذلك حسب مفهوم ذلك الزمان.
قال لي الراوي: كنت متعبا في احد الايام واعلنت العصيان، ولم اذهب لملاقاة الوالد لاستبداله بعد ساعات الظهر.
وقلبي قد خفق سريعا من الخوف، وكانت الوالدة العزيزة رحمها الله خائفة تتوسل الي خوفا من العقاب المرتقب ساعة المساء عند عودة والدي من الجبال والوديان.
الا انني عصيت ولم اكترث رغم توسلات والدتي ورغم العقاب المرتقب لا محالة.
وعند المساء التقت عيوني بعيون الوالد، التقت عيون الولد العاق بعيون الوالد ووجهه الذي بدى عليه التعب وشدة الغضب، وكانت مهمتي ان اتفقد واتاكد من عدد المواشي في كل اخر نهار، فقمت كالعادة في هذه المهمة، ثم ساعدت الوالدة على حلب الماعز وقلبي يرتجف خوفا.
وفي هذه الفترة لم ينبس الوالد ببنت شفه (كلمة واحدة)، وبعد ذلك تقدم الوالد وسال لماذا تاخرت هذا اليوم ولم تات لاستبدالي كما هو متفق عليه؟ فاجبت بصوت خافت: كنت متعبا يا والدي، اجاب الوالد: اراك بالعكس تماماً فانت تستطيع ان تقف على رجليك وتحلب الماعز ما شاء الله!!
وقبل ان اجيب تلقيت لكمة او لكمتين من الوالد الذي صفعني بقوة عقابا على التقصير.
وفي هذه الاثناء تدخل صاحبي تيس الغنم الذي كان صديقا حميما لي يسير جنبا الى جنب معي في السهول والوديان والمراعي المجاورة، وكنت كريماً معه في اطعامه من اوراق الشجر الطرية الناعمة، البعيدة عن متناول اليد.
هذا الصاحب الذي لم ينسَ صديقه، وقف على رجليه كالمارد، ودفع والدي بقوة بقرنيه مدافعاً عني، وتألم الوالد، الذي لم يتوقع هذا (التدخل الاجنبي) المفاجىء، فاستشاط الوالد غضبا من شدة الالم وضربة الفحل التي كادت ان تكون القاضية، ولكن والدي الذي تمتع بصحة وقف على رجليه بسرعة واختفى المه، واستفاق غضبا بعد اقل من ثانية ليرد اعتباره، فجاءت بيده احد غطي “الزير” الحديدية ولطم “تيس الغنم” في وجه هذا الصديق الذي وقف الى جانبي واوقف والدي عن مواصلة العقاب المخطط له.
ولكن الضربة التي ضربها والدي في وجه التيس الاجنبي كانت القاضية بسبب تدخل هذا “التيس الاجنبي” الصديق بين الوالد وابنه.
وقام والدي وتفقده فعرف انه فارق الحياة ولكنه سار الى البيت ولم ينظر وراءه.
سألت المتحدث هل تأسف والد على فعلته هذه التي اودت بحياة فحل الغنم؟
قال: نعم ولكن الانفة وعزة النفس جعلته ان لا يظهر اسفه على خسارة هذا الزعيم الذي كان بحاجة ماسة لقطيع الغنم، وقد خسرت صاحبا لي ونسيت صفعة ابي ثم انشغلت في انقاذ صاحبي الذي تدخل بامور لا تعنيه وودعت صاحبي الى مثواه الاخير حزنا ثم سحبته بعيدا عن صديقاته وتركته في العراء بين الجبال ليكون فريسة للطير الجارح وللحيوانات المفترسة مثل الكلاب والذئاب.
واثناء مراسيم الوداع لصديقي “التيس الاجنبي” قلت له ببراءة، هكذا يصيب كل من تدخل بما لا يعنيه حتما سيلقى ما لا يرضيه.
فكانت همسات العتاب قد وجهت الى صديقي الذي وقف الى جانبي ومنع والدي من الاستمرار في العقاب.
وقلت له معاتبا مخاطبا كنت على استعداد ان اتحمل العقاب، وهل تظن ان والدي سوف يقضي علي؟ لماذا هذه التضحية من اجلي يا صديقي؟ الا تعرف ان والدي يحبك كثيرا ويحبني ايضا؟ ولكنه لا يستطيع ان يتنازل عن كرامته مهما كلف الثمن!!
ولماذا هذا العنف الذي استعملته مع والدي؟ الذي القيت به ارضا؟ لماذا انت أنت تيس يا تيس؟
الا تعرف المثل الذي يقول: يا داخل بين البصلة وقشرتها ما نالت الا ريحتها….
الا تعلم ان والدي لم يقصد قتلك، ولكنه ضربك دفاعا عن النفس؟ وانت ضربته دفاعا عني.
انك غير مذنب يا صاحبي، وان ابي غير مذنب كذلك، ولكن اريد ان اعترف لك انني انا المذنب يا صاحبي، لانني ولد عاق.
اتعرف ماذا يعني الولد العاق لوالديه؟ سامحك الله وسامحني الله وسامح والدي.
وفي اليوم التالي خرجت بعد العودة من المدرسة وبعد تناول طعام الغداء مسرعا لملاقاة والدي واخذت على عاتقي ان اقوم بدوري خير قيام، وكنت اسمع والدي يهمس لوحده وبصوت خافت رغم امتيازه بصوته الجهوري، بدعاء في كل صباح، الله يرضى عليك يا ابني.
وهكذا كنت اذهب الى المدرسة منتصب القامة، واتجول بعد الظهر مع القطيع بحب وفخر واعتزاز، ولهذا هناك من اطلق علي لقب الزابط وما زلت احمل هذا اللقب منذ طفولتي وحتى هذا اليوم.
سألت الراوي الذي بلغ ما يُقارب الستين سنة: ماذا شعرتَ ايضاً، وهل عبرت عن شعورك باساليب اخرى غير الحوار الذي أجريته مع صديقك المخلص الذي فارق الحياة.
قال: كنت اتمتم وأغني معاتباً صديقي احمل العصا واتذكر صاحبي:
وهذه بعض المقاطع التي كنت احاول بها ان اعبر عما جرى:
صاحبي يا تيس تيست كثير
الضربة يا تيس هيك في القرنين؟
والغنم حزنان ع جبل صنين
الضربة يا تيس مش هيك في القرنين!
اودعك يا تيس والدمع في العين
والوالد حيران يا غراب البين
ورضاء الله من رضا الوالدين
ثم الماء العذب وارد على العين
صاحبي الوداع على الشاربين
والشعر الكثيف طري كالّقطين
والعيون مكحلة غزال شارد وين
والولد العاق ضُرب لكمتين
تدخلك يا تيس والله ما هو زين
العاقل يا تيس بفكر مرتين
———————————————————-
صاحبي يا تيس يا زين العرسان
الراعي حزنان في جبل العريان
والقطيع هادئ يرعى في الوديان
بشرب من العين ميّة مع قطران
والبيوت معدودة يسكنها الفرسان
الشايب والولد همّة يا عدنان
والقمح عالبيدر يلا يا نسوان
والقلب واحد يا أبا سرحان
ما جزا الاحسان الا بالاحسان
———————————————————-
فحلي يا فحل الغنم والدي حبك كثير
والتياسة مهضومة وارد على البير
حبيتك والله حبيت والملك قتل الوزير
وبيي ما مذنب ضربك بغطاة الزير
واندفاعك بسرعة حصل بلا تفكير
يا خسارة يا فحل هذا هو المصير
الحزن والله في القلب عند الكبير والصغير
والولد هو الولد عاق ولا أمير
والوالد مهما كبر بحبك يا ضرير
والوالد هو والد يحب ابنه لو كسير
حنان الاب شاغلني والحنية كالحرير
صاح انا المذنب باهمال والتقصير
في صلاة الفجر يرضى عليّ كثير
الله معك الله معك يا بني يا وزير
والوزارة من الازر وحسن التدبير
يا ابني شدلي الازر لانك والله قدير
———————————————————–
حبيتك والله حبيت بعيوني والله حطيت
والحلال بقاع البيت والحليب مع الزيت
عفراقك والله حنيت لعيونك والله غنيت
———————————————————
غدار والله يا زمن الصغير على الباب
الاخلاص والضمير عند البعض كالعذاب
والضمير من زمان في سبات وغياب
وليش انا عملت هيك ترك الوالد في الشعاب
والوالد بعمل من اجلي قراننا يعطي الجواب
ارضى علي والدي حتى احصل عالثواب
سماح حبيبي والدي حتى انجو من العقاب
والوالد لو ضرب ابنه القصد تعليمه الاداب
والوالد لو عاتب ابنه حتى يعود للصواب
والقيام في الواجب يعطي الحق للاصحاب
والتهرب والتسويف فساد ما بين الاصحاب
——————————————————-
والرواية والعبر للحيوان والبشر
حيوان ارفق في الانام يا ناس الله اكبر
——————————————————
أستاذ فؤاد – تمتّعت بهذه القصة التي تصف أيام زمان، وفيها أكثر من عبرة ودرس!
لك كلّ الودّ والتقدير.
د. محمود أبو فنه
مشكور على هذه القصة أستاذ فؤاد.
لكل منا دور وعمل في هذه الحياة وكلّ مسؤول عن دوره وأي تقصير من أي كان في أداء واجبه على أكمل وجه ستكون له إنعكاسات ونتائج على المحيطين فيه .
فالنتقن عملنا
قصة جميلة نهايتها غير متوقعة ، وكانت المفاجئة كبيرة ، فأين نحن اليوم من الاعتراف بالذنب واحترام الوالدين؟
حين قرأت ألقصة تذكرت مسيرة حياة والدي وأجدادي البسيطة والشاقة: من البئر, الى المزارع والى ألحقول… ولكن لم نسمعهم يتذمرون, كانوا يقومون بواجبهم ورسالتهم بمتعة…
وكثيرة هي العبر التي يمكن ان نتعلمها من كل موقف في هذه القصة: بر الوالدين, الرفق, حسن التصرف ورد الفعل الملائم الذي فيه فائدة لنا…فبوركت يا أستاذ فؤاد على هذه القصة ألرائعة.
قصة حلوة كثيير ومفيدة وبتذكرنا كيف اجدادنا عاشوا وبعطينا نبذه عن كيف القسوة والشدة الي كانوا يستخدموها بهديك الفترة
وطبعا هاي قصة واحنا اخدنا العبره منها
طول عمرك يا استاد تمدنا بالافضل
شكرا
وبتمنى اقرا كمان وكمان من كتاباتك
فصه جميله جدا ومعبره شكرا للكاتب
موقع بقجه يفوق كل المواقع من حيث المستوي , اللغه التي تستعمل به والمقالات التي ترفق – يعطيكم الف عافيه قدما والى الامام.
اتمنى ان تخصصوا زاويه لقصص من ايام زمان يمكن ان يحدثها لنا اجداد وجدات كفر قرع.
استمتعت بهذه القصة التراثية من قبل الكاتب فؤاد كبها وافكر في تمريرها لطلابي الذين تنقصهم المعلومات عن ايام زمان لان القصة مليئة بالعبر وباستطاعة الطلاب ان يصلوا الى هذه العبر لوحدهم ومن خلال عرض هذه القصة التي يمكن ان تكون في منهاج التدريس الخاص في الوسط العربي وشكرا لهذا الكاتب الذي صور ايام زمان اجمل تصوير واعتقد ان هذا الكاتب المبدع سيثرينا بقصص اخرى تفاجئ القارئ
يسلم ثمك يا خالي فؤاد على هذه الكلمات الرائعة، اول مرة بسمع هاي القصة وكثير كثير عجبتني
بتمنى من الله يطول بعمرك ويخليلنا اياك
وتظل تزودنا بالكثير الكثير من الروايات والقصص الجميلة
وشكرا
قصة كثير حلوة وجيدة وبتمنى التقدم واتمنى لك الصحة والعافية يا خالي يا طيب يا حنون.
وفعلاً هاي القصة كثير بتعني وكثير حلوة ويا ريت نصل الى ما وصلت اليه
وشكراً
اتشائم قليلاً عندما اقرأ كلمة قصه ,لأنها حقيقه واقعيه وبالتأكيد حدثت.
أشكرك جزيل الشكر استاذ فؤاد على نشرك الروايه الواقعيه السابقه من واقع حياة اجدادنا ,والتي بأجزائها الغير قليله ذكرتني بواقع عشته بصغري من خلال تربيه ومرافقة الاغنام للمراعي بعد انتهاء الدوام المدرسي .
تغيظني بعض الشيء ,ولكنها معبره جداً وخاصه انها مبنيه على الامانه والتضحيه والوفاء ,وفاء الحيوان للانسان , بل ورفق الحيوان بالانسان, لعل ضمير الانسان يستفيق قليلاً ليعلم وللاسف ان الدابه أأمن من اخيه الانسان عليه ,ومستعده للتضحيه بحياتها من اجله .
[…] ثم ان الاستاذ فؤاد كبها قد بدأ في كتابة مؤلف جديد فيه من النثر والشعر يروي في هذا الكتاب بعنوان: حكايات ابناء بلدي “، ويعتبر كل قرية او مدينة في ارجاء فلسطين من اقصى الشمال وحتى الجنوب بلده الواحد، وقد قام الكاتب بنشر رواية من هذا الكتاب الجديد في موقع بقجة بعنوان: “الرفق بالانسان“. […]