جولة مع كتمان السر
تاريخ النشر: 19/07/17 | 5:00ما أكثر كتب الأدب التي تناولت الموضوع*، ويبدو أن كتمان السر أساس في العلاقات البشرية الاجتماعية، فهو من أهم ما يجب على الإنسان أن يحرص عليه، ويقال إنه من أقوى أسباب النجاح والصلاح وصون النفس، فالحكمة أن يحتفظ الإنسان بسرّه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وصدق الحكيم الذي وعظ ابنه:
“يا بني كن جوادًا بالمال في موضع الحق، ضنينًا بالأسرار عن جميع الخلق”.
ذهب بعضهم إلى أنه رُوي في الحديث الشريف:
“استعينوا على الحاجات بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود”.
أما الشعر فما أكثر ما قيل فيه:
قال أحدهم:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها *** فسرّك عند الناس أفشى وأضيع
وعلى معناه ورد في كتاب البَيهَقي- (المحاسن والمساوئ) من أشعار العُـتْـبي (ت. 844م):
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه *** فصدرُ الذي يُستودعُ السرَّ أضيق
ومما يدلنا على أن هذا البيت ليس من شعر العُتبي قوله هو:
فمن كانت الأسرار تطفو بصدره *** فأسرار صدري بالأحاديث تغرق
فلا تُودعنَّ الدهرَ سرَّك أحمقًا *** فإنك إن أودعتَه منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظًا *** من القول ما قال الأديب الموفَّق:
“إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه *** فصدر الذي يستودع السّرّ أضيق”
ورد هذا البيت في عدد كبير من كتب الأدب على أنه لشاعر (ولم يُذكر اسمه)، ولكني وجدته في ديوان الشافعي- (ص 65) مصحوبًا ببيت آخر:
إذا المرء أفشى سره بلسانه *** ولام عليه غيره فهو أحمق
ويبدو لي أن العتبي- المعاصر للشافعي (ت. 820م) قد اقتبس البيت منه، وعنى به- “الأديب الموفّق”.
…
جدير بالذكر أن صدر البيت المذكور أورده أبو الأسود الدؤلي (ت. 688) في شعره، فيقول:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه *** ففاض، ففي صدري لسريَ متَّسعْ
نمضي مع الشعراء في ذكر السر وكتمانه:
قال آخّر (هو ابن الخطير- في بعض الروايات):
لا يكتم السر إلا كل ذي خطر *** فالسر عند كرام الناس مكتوم
والسر عنديَ في بيت له غلَق *** قد ضاع مِفتاحُه والباب مردوم
قيل: دخل أبو العتاهية على المهدي، وقد ذاع شعره في عُتبة- حبيبته، فقال:
“ما أحسنتَ في حبك، ولا أجملت في إذاعة سرك”.
فقال أبو العتاهية:
من كان يزعم أن سيكتم حبَّه *** أو يستطيع الستر فهو كذوب
الحب أغلب للرجال بقهره *** من أن يُرى للسر فيه نصيبُ
وإذا بدا سر اللبيب فإنه *** لم يبدُ إلا والفتى مغلوب
إني لأحسد ذا هوًى مستحفظًا *** لم تتهمْهُ أعين وقلوب
فاستحسن المهدي شعره وقال: “قد عذرناك على إذاعة سرك، ووصلناك على حسن عذرك، إن كتمان السر أحسن من إذاعته”.
كان أبي -رحمه الله- يسجل مقولات وحكمًا في دفتر صغير يودعه الجارور، وكان حريصًا على تدوين هذا القول التالي كلما استبدل الدفتر بآخر:
كل علم ليس في القرطاس ضاع، كل سر جاوز الاثنين شاع.
اكتشفت مؤخرًا أن هذا القول ورد شعرًا في كتاب (فاكهة الخلفاء) لابن عربشاه في الباب الخامس- فصل “في نوادر ملك السباع”:
وكل سر جاوز الاثنين شاعْ *** وكل علم ليس في القرطاس ضاعْ
الطريف أن أبي فسر (الاثنين) بمعنى الشخصين، وهو يعني أن السر إذا عرفه ثلاثة أشخاص شاع بين الناس، وهكذا ظننت طوال السنين أن السر نفضي به لشخص واحد فقط.
لكني وجدت أن كتاب (فاكهة الخلفاء) يشرح أن الاثنين لا يعني بهما إلا الشفتين، وبهذا يكون المعنى أن السرَّ سيشيع إذا نطقت به لسواك، وبالتالي فلا تأتمن أحدًا على سرك!
ولا أدري سبب حرص والدي على تنبيهي كل مرة، فيقول لي ما يحفظه غيبًا:
“ولا تفش سرك إلا إليك، وكم من إظهار سر منع من نيل المطالب، وصدق من قال: اقضوا حوائجكم بالكتمان”.
وكنت قرأت أن إظهار الرجل سر غيره أقبحُ من إظهاره سر نفسه؛ لأنه يبوء بوصمة الخيانة.
فليختر العاقل لسره أمينًا إن لم يجد إلى كتمه سبيلا، فقلوب العقلاء حصون الأسرار، وليتحرَّ في اختيار من يأتمنه عليه ويستودعه.
من الناس من لا يستطيع أن يحفظ الأسرار، بل يُفضي بها.
وأذكر قصة امرأة طلبت من جاراتها ألا يحدثنها أي سر، فهي لا تستطيع الكتمان حتى لو حاولت.
أثارت المرأة ابتساماتنا لصراحتها.
في هذا السياق أتذكرون وصف الحطيئة في هجائه لأمّه:
أغِربالاً إذا استُودِعتِ سرًا *** وكانونًا على المتحدّثينا
ما أجمل ما نسب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
“القلوب أوعية الأسرار، والشفاء أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره.”
وقد قال بعض الحكماء : كلما كثرت خزان الأسرار ازدادت ضياعًا.
( الجاحظ: المحاسن والأضداد، ص 48- 49،؛ الماوَرْدي: أدب الدنيا والدين، ص 367)..
في جولتي الشعرية حول الموضوع، وحول التشدد في كتمان السر- قرأت للحسين بن مُطَير:
وكنت إذا استُودِعتُ سرًّا طويتُه *** بحفظٍ إذا ما ضيّع السرَّ ناشره
ووقفت عند المتنبي، فله في كل نار ما نقبسه:
وللسرِّ مني موضعٌ لا يناله *** نديمٌ ولا يُفضي إليه شراب
فالشراب يكشف الأسرار عادة لما فيه من بوح، كما قال أحد الشعراء:
“فالسُّكْر يظهر سره المكتوما”.
وليس كل الشعراء كأبي نُواس في قصيدته التي تمالك فيها نفسه، إذ نُسب إليه:
ولما شربناها ودبّ دبيبها *** إلى موطن الأسرار قلت لها: قفي
مخافةَ أن يسطو عليَّ شُعاعُها *** فيطْلعُ نُدماني على سرّيَ الخفي
وأبو نُواس يذكر (السر) في موضع آخر، فيقول ناصحًا:
لا تُفش أسرارك للناس *** وداوِ أحزانك بالكاسِ
فإن إبليس على ما به *** أرأف بالناس من الناس
* أبرز الكتب التي تركزت في الموضوع كتاب الجاحظ- (كتمان السر وحفظ اللسان) ضمن الرسائل، ج1، ص 140- 172.
ب. فاروق مواسي