مَرِّرْها(2)
تاريخ النشر: 24/07/17 | 6:46كنتُ أتساءل عن الدوافع التي جعلت ذلك الشخص يُقدِم على مساعدتي سيما بعد أن اعتذرعن قبول ايِّ مبلغ مقابل اتعابه، وردَّ بلطفٍ إصراري على دسّ مبلغٍ من النقود في يده او في جيبه. كما رفض ان يعرّفني بنفسه وهو ينسلُّ من بين يديّ باتجاه باب سيارته، قائلا لي قبيل انطلاقه بسرعة، جملةً قصيرةً تبيّنتُ منها، رغم صوت المحرك، الكلمات الثلاث التالية:
“”Just past one. هذه الكلمات الثلاث، وإن كنتُ اعرف ما معنى كلٍّ منها على انفراد كما اعرف انها قد تؤدي مجتمعةً معنى: “تماما بعد الواحدة”، إلا اني لم انجح آنذاك في فهم ما قصده الرجل في هذا السياق بصورة عامة والسياق الزمني بصورة خاصة. وقفتُ متجمّدا مكاني وانا ارى سيارته تبتعد عني، تاركة ايّاي اتخبط بالبحث عن إجابات لاسئلة عديدة، منها: من هو هذا الرجل؟ وماذا قصد فعلا ان يقول لي؟ ولماذا؟. هذه الاسئلة التي لم استطع التخلص منها، اخذت تروادني دائما، سيما في سفراتي المتكررة من حيفا الى فسوطه وبالعكس، فباتت اسئلة ملحاحةً تفرض نفسها عليَّ وكأنها لغز تحداني على امتداد نحو ربع قرن من الزمن، حتى وجدتُ له بالصدفة حلا…
كان ذلك في مدينة نيويورك في اواخر التسعينات، عندما سافرنا (زوجتي وانا) الى زيارة ولدنا امير اثناء دراسته للماجستر في كلية الحقوق في جامعة فوردهام، حيث قضينا بصحبته وصحبة زوجته، إجازة ممتعة ومثرية…لكن، قبيل موعد عودتنا الى حيفا بيومين، كنا في سهرةٍ انيسة بصحبة إبننا وزوجته وبعض الاصدقاء العرب المقيمين في نيويورك ومنهم عاطف ابو وجدي الذي بدا فرِحًا حاضرَ النكتة وسريعَ الخاطر، فاضفى على السهرة جوا مميّزا ممتعا. وفي هذه الاجواء اللطيفة المسترخية، قالت لي زوجتي بدعابة وعلى مسمع من الجميع: “لا بدّ من شراء بعض الهدايا الى احبائنا في حيفا”. فاجبتُها بعفوية مؤطرةٍ بذهولٍ مفتعل بات مألوفا لها في مثل هذا الموقف، قائلا لها وانا اضحك: “يعني shopping (مشتريات)! أليس كذلك؟”. فاجابت ضاحكة بدورها: “أيوه. بكره عندك نهار مكتبة”. ضَحِكُنا المتبادل والربط بين كلمتي “مشتريات” و”مكتبة”، أثارَ فضولَ عاطف وربما الآخَرين ايضا، فقلتُ لهم وكأني اكشف سرًا عائليا: “ان زوجتي ادركت، منذ تعارفنا، مدى تحفظي، إن لم يكن كرهي، للمشتريات، فاحترمتْ قراري بان دخولنا الى اي مجمَّع تجاري، يعني إعتكافي في احدى المكتبات، ريثما تنهي هي مشوارها الشرائي”. سكّتُ لحظة ثم اردفتُ قائلا وانا اقهقه : “وهيك محسوبكم صار مطالعا مداوما نهما لا يُبارى”…
وهكذا “كان مساء وكان صباح يوما ثانيا” عندما وقفنا زوجتي وانا في مدخل احد المجمعات التجارية الضخمة في نيويورك… ممعنين النظر في خارطة المجمّع ومجسّمِه ودليلِ المَحال التجارية المختلفة التي فيه، بما في ذلك المكتبة التي سارسو فيها والتي سنلتقي عند مدخلها في ساعة متفق عليها… وقبل ان نفترق قالت لي زوجتي: “انت بحاجة لقميصٍ تشتريه، فلا تنسَ نفسك في المكتبة “…
دخلتُ الى المكتبة. إتساعُها قزّم في نظري مكتباتٍ ضخمة كنتُ قد ألفْتُها في لندن إبّان دراستي هناك. اردتُ كعادتي ان اتجوّل اولا في اقسامها المختلفة، إلا اني وجدت نفسي اتوقف عند الزاوية العلمية، لاقتني “قاموس الشهابي للمصطلحات العلمية” الذي كنت ابحث عنه…ثم تقدمت نحو الزاوية الادبية، فاسترعى انتباهي رفٌّ عليه مجموعة كبيرة من الكتب التي تحمل العنوان الرئيسي ذاته “Chicken Soup for the Soul” (اي مرقة –شوربة- دجاج لمتعة النفس). ظننتُ للوهلة الاولى انني في زاوية كتب الطبخ، او ان احد الزبائن قد دسّ هذه الكتب في غير موضعها. تناولتُ كتابا منها واخذتُ اقلّبُه وإذ فيه عشرات القصص الادبية التي لا تمت الى الطبخ بصِلة. إستهوتني مواضيعُ القصص. حملتُ هذا الكتاب بعد ان دفعت ثمنَه وذهبتُ فورا الى زاوية المطالعة داخل المكتبة…اخذت اقلّب صفحات الكتاب. اخترت عشوائيا بعض القصص، فوجدت ان لكلٍّ منها مؤلفها ورسالتها وعبرتها. واذا كانت القصة الاولى التي قرأتها، قد فتحت شهيتي وجعلتني انتقل الى الثانية فالثالثة والرابعة والخامسة الخ…فان القصة التي كتبها الطبيب كينيث ديفيس (Kenneth G. Davis) كادت تجعلني اصرخ باعلى صوتي: “وجدتها(Eureka)”. لكنّ النظرة التي حانت مني الى عقاربِ ساعتي المهرولةِ لاهثةً نحو الموعد المحدّد لملاقاة زوجتي في مدخل المكتبة، جعلتني اكبح صرختي واغادر موقعي فورا…
وجدتُ زوجتي بانتظاري في الكافيتيرا التي في مدخل المكتبة. لم استغرب سؤالها لي وقد رأت اني احمل رزمةً بيدي: “هل إشتريتَ قميصا؟”. أجبتُها ضاحكا: “إشتريتُ قاموسا”. ضحكت ثم قالت باستغرابٍ: “بَسّ؟!!. فاجبتُها وانا اضع امامها كتاب Chicken Soup مفتوحا على قصة الطبيب ديفيس، قائلا لها: ” لقد وجدتُها”…
ويبقى السؤال: “ماذا وجدتُ؟”. عن ذلك ساتحدث في الحلقة القادمة
د. حاتم عيد خوري