ثمنًا للشّمس: حكاية الأنثى والنضال
تاريخ النشر: 24/07/17 | 13:10إنّه أدب السجون، الأدب الذي ينقش حروفه المعذّبة على صفحات التاريخ سعيًا إلى الكشف والتوثيق.
لقد سلكت عائشةُ طريق العديد من السجناء الذين خرجوا ليسجّلوا تجربتهم، وجعلوا السجن تيمةً في كتاباتهم. وكثيرًا ما أخذتني لأتذكّر تجربة نوال السعداويّ في”مذكّراتي في سجن النساء”؛ أو “حملة تفتيش.. أوراق شخصيّة” للطيفة الزيّات؛ أو “السجن.. الوطن” لفريدة النقّاش، أو حتّى لكتّاب مثل عبد الرحمن منيف وشرقه المتوسّط.
وما بين الذاكرة والنسيان تفيض الآلام وتنزّ الجروح. فتعود المشاهدُ لتنبش ذاكرة عائشة مستحضرة الألم، فتندفع الحروف بأنينها كأثرٍ باقٍ لا ينفكّ ينزف ويستصرخ الخلاص. فالكتابة عن السجن وجعٌ، لكنّ الصمت وعدم الكتابة سيكون أكثرَ ألمًا.
ولعلّ قوّة البوح انتصرت، فباحت عائشةُ بعد أن سكتت ما يقارب الثلاثة عقود. فبعد أن قضت في السجن عشر سنوات وأفرج عنها في أوّل عمليّة تبادل بين المقاومة الفلسطينيّة وإسرائيل سنة 1979، احتاجت إلى هذه العقود حتّى تفتح جرحها وتعرّيه بكتابها الأوّل “أحلام بالحريّة” عام 2004، ثمّ احتاجت إلى سبع سنوات أخرى لتكمل توثيق التجربة في كتابها “ثمنًا للشمس”.
“ثمنًا للشمس” هي سيرة ذاتيّة توثّق الكاتبة فيها أحداث عشر سنوات جاعلة منها شهادة تحكي فيها تجربتها وتجارب غيرها من المناضلات الفلسطينيّات وتسجّلها بالأسماء والتواريخ. وتتطرّق فيها إلى الصراع بين السجينات الفلسطينيّات والإسرائيليّات، واللحظات التي تتغلّب فيها الإنسانيّة فيتآلفن. ثم تذكر محامين إسرائيليّين دافعوا عن نضالهنّ، إضافة إلى مناضلات أوروبيّات دخلن إلى المعتقل لنضالهنّ مع القضيّة الفلسطينيّة. لكنّها لا تخلو من صورة السجّان اليهوديّ القاسي.
**مفارقة السجن وجدليّة القيد والحريّة
لا يفرّق السجن بين سجين وسجينة، بل هو يمارس قمعه على كلّ من في السجن، حتّى على السجّان نفسه.
لا يعيش السجين حياة عاديّة طبيعيّة، ممّا يتيح لأعمق النوازع الإنسانيّة أن تستيقظ وتتصارع. لهذا نجد الشخصية دراميّة، متحرّكة صعودًا وهبوطًا، ضعفًا وقوّةً. فقد يشعر السجين تارة أنّه عاجز معزول، ولهذا شعرت عائشة أنّها لو قُتِلت خارجًا أفضل من عدم مشاركتها في قضايا شعبها، مؤكّدة: “إنّه القهر بعينه.. إنّه السجن”( ص 148).
ويحاول السجين البحث عن كلّ السبل للحفاظ على رشده، فلا غرابة أن نجد عائشة في الزنزانة تناجي أمّها بصوت عالٍ، ثمّ تتحدّث إلى نملة. إنّها عزلة يقصدها السجّان لأنّها عامل تغريب وضغط نفسيّ.
وحين يتمّ القصاص يحرمن من الكتب والجرائد والأقلام، وحتّى من رؤية الشمس. عندها كيف ستتحايل السجينات على هذا الواقع؟ تقول عائشة: بالخيال، باللعب، بالمصارعة، بالرياضة، بالغناء، وبالجنون”(ص 199)، ويصبح الغناء “ماءً للعطشى وطعامًا للجوعى”(ص 196). “ومع أحلام الحبّ وذكرياته يرهف القلب ويطير”(ص 274 ). إنّها ذكريات تضيء عتمة السجن كلّما أصاب الروحَ الظمأُ.
وفي السجن تحلو صغائر الأشياء. أَلَمْ تقل نوال السعداويّ في مذكّراتها: “داخل السجن يعرف الإنسان اللون الحقيقيّ لكلّ الأشياء”؟ هكذا، في ظلّ الفقد والجوع تشعر عائشة “أنّ طعم الخبز أشهى” (ص 119).
وتهرب عائشة إلى الكتاب تبحث فيه عن أمل، فخلف القضبان يُعشق الحرف وتُناجى الكلمة. فتصارع السجينات لأجل الحصول على الكتب، كما ينظّمن الحياة الثقافيّة وصولًا إلى تحويل السجن إلى مدرسة لمحو الأميّة، ويصدرن مجلّة ويوزّعن المهامّ وينظّمن المصروفات.
وتبرز مفارقة السجن والحريّة كذلك في رحلة اكتشاف الذات وفهم الأعماق. فكلّما ضيّق المكان على الجسد انفتح خيال الروح واتّسع. فتبحث عائشة في أعماقها وتسائل نفسها في مونولوج مشحون بالصراع والتشظّي: لماذا أنا أنا؟ لماذا كانت خياراتي هي خياراتي؟ أيّة عائشة كنت سأكون لو أن أبي لم يمت وأنا صغيرة؟ لماذا كان خياري السجن..؟ ما علاقة هذا الخيار بهاجس الحريّة الذي يسكنني؟” (ص 121). وهنا يتوقّف الزمن الخارجيّ الطبيعيّ ويفقد أهميّته، لكنّ المفارقة في أنّه يمسي لدى السجين متّسع من الوقت لينكشف على ذاته، أو لربّما ليتعرّف إليها وعليها.
أوَ ليس الخيال من يمنح الإنسانَ شعورًا بأنّه ما زال بشرًا سويًّا؟ إنّها هذه الحريّة الروحيّة الّتي لا يمكن لأحد أخذها منه، بل يمسي الخيال تعويضيًّا، محقّقًا له نوعًا من التوازن الداخليّ. فما الذي يملكه السجين بعد أن عرّاه سجّانه من كلّ شيء؟ لا شيء سوى خياله وأحلامه. وهذا ما تقوله عائشة لنفسها حين تحبس وحيدة: “يجرّدونك من كلّ شيء فتدخلين في صميم حريّتك”(ص 109).
هكذا يقابل الانحباس في السجن انفتاحٌ في الخيال والفكر. وحتّى يتمّ الانفتاح يجب الانتقال من القصّ الخارجيّ إلى القصّ الذاتيّ الداخليّ من خلال آليّات تيار الوعي، كضمير البوح الضمير المتكلّم والمونولوج والتداعي والفلاش باك والذكريات والحلم. إذًا، هي جدليّة السجن الحريّة، المغلق المفتوح، الخارج الداخل، هي جدليّة التضادّ.
يتعزّز صمود السجينات وتحدّيهنّ من خلال تقاسمهنّ الجوع، فتقوم عائشة ورفيقاتها بإعلان الإضراب عن الطعام كوسيلة للضغط لتحقيق مطالبهنّ. ويمثّل الإضراب عن الطعام أرقى حالات التمرّد، فيصبح الجسد المتحرّق في نار الجوع سلاحًا في معركة الإرادة.
لكنّ السجين في أدب السجون ليس قادرًا على أن يكون بطلًا. فكيف لهذا المهزوم الذي يعيش ماضيه في ذاكرته، وحاضره خلف القضبان، ومستقبله مغلّفًا ببطانة المجهول أن يكون بطلًا حين ولّت البطولة هاربة في زمن العنف؟! أليس هو زمن اللابطولة؟! زمن الفقد والخسران؟
ليست مقاييس الانتصار التي ينتصر فيها السجين على سجّانه تتعدّى أن يصمد في معاركه الصغيرة. وهذا ما يجعل الكثيرين “يقتلون” جلادّيهم بالصمت والسخرية، أو بإظهار الفرح كما فعلت عائشة ورفيقاتها.
وحين تقرّر عائشة الانتقام من السجّانة التي رفضت إدخال ابن أخيها إلى الزيارة لا تتوانى عن تحقيق رغبتها بضربها رغم أنّها تعرف أنّها ستعاقب على ذلك، لكنّها حين تُجَرُّ إلى الزنزانة منتصرةً على سجّانتها تقول: “أنا أقبض على الفرق بين اللحظة والأمس، وشتّان بين العائشتين، وبين الزمانين.. بالأمس كنت مقهورة ومظلمة النفس.. أمّا اللحظة؛ فهادئة ومضيئة… بالأمس كانت إنسانيّتي مذبوحة ومهانة حتّى النخاع، وها أنا اليوم استردّها” (ص 108).
أما زمكانيّة السجن فهي معتمة حدّ العفونة. فلا تخلو السيرة من وصف السجون أو تشبيه الزنزانة بالكهف، أو بوصف برودتها ورائحتها النتنة، ولون جدرانها الرماديّ، لون المرض والكآبة. فتتشابه السجون بأبعادها الهندسيّة الماديّة والمعنويّة. ولعلّ أهمّ ما يميّزها أنّها أمكنة كريهة ومعادية، ليست حميميّة، ولا تتعالق بها الروح ولا تنجذب، بل تسحق ساكنيها وتحبطهم.
أمّا الزمان فيصبح مرادفًا للمكان في قسوته وتشويهه للنفس. ولما كانت السجينة تبحث عن الانفتاح في مكان مغلق فإنّها بالضرورة تسترجع زمنًا كان ملكها هي، هو الزمن الماضي. إذ يعتمد الزمن في السجن على زمنين أساسيّين: الحاضر والماضي. فالحاضر هو زمن الحبكة، زمن السجن وعذاباته. أمّا الماضي فزمن الذكريات والتداعي. إنّ الزمن هو الجلّاد الأوّل والعدوّ الأكبر، فكم يطول الوقت ويتمطّى بتثاؤب؟! وكم يتثاءب كسولًا عنيدًا؟! إنّه بطيءٌ ثقيلٌ كثقل المكان، وعفنٌ كعفونته.
أمّا المستقبل فمجهولٌ، يتآمر مع الخوف على السجين. فلا يموت الإنسان في السجن- مثلما تقول السعداويّ – “من الجوع أو البرد أو الحرّ أو الضرب لكنّه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحوّل الزمن إلى اللّا زمن، والشيء إلى اللّا شيء، والمعنى إلى اللّا معنى. لا شيء يقتل الإنسان سوى الانتظار”(مذكراتي في سجن النساء- ص 141).
لا تصرّح الكاتبة في الغلاف بهويّة نصّها، وهذا ما جعل البعض يخطئ باعتبارها “رواية”، إذ إنّنا نتحدّث عن سيرة أوتوبيوغرافيّة تتطابق فيها شخصيّة المؤلّفة مع الساردة والشخصيّة المركزيّة على حدّ ميثاق لوجون. إذ يعرّف الناقد الفرنسيّ فيليب لوجون السيرة الذاتيّة “بأنّها حكيٌ استيعاديٌّ نثريٌّ يقوم به شخصٌ واقعيٌّ عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركّز على حياته الفرديّة وعلى تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة”، مشيرًا إلى شرط التطابق بين الشخصيّات الثلاث. ويضيف آخرون إلى تعريفه شرط تصريح الكاتب بشكل مباشر أو غير مباشر أنّ ما يكتبه هو سيرة ذاتيّة. ورغم أنّ الكتاب لا يتضمّن في غلافه هذا التصريح إلّا أنّ الكاتبة تكشف في المقدّمة والتنويه ومتنه عن هويّة هذا النصّ.
“ثمنًا للشمس”، هو عنوان السيرة الفوقيّ ممثّلًا النصّ التحتيّ، مشيرًا إلى الفكرة المركزيّة والدلالة. وحين يدخل القارئ إلى النصّ يدخل أوّلًا عبر عتباته الأولى. والعنوان هنا جزء من عنوان فرعيّ لفصل من الفصول: “ندفع ثمنًا للشمس”. أمّا لوحة الغلاف فنرى فيها نباتاتٍ ملوّنةً تشقّ الأرض مرتفعةً إلى أعلى، حيث تأتي تجسيدًا لمضمون هذا الفصل، والذي تتحدّث فيه الكاتبة عن اضطرارهنّ للخروج إلى العمل في الأرض لساعات بلا أجرٍ، لكنّهنّ يوافقن من أجل أن يحظين بشمس بلادهنّ ويزرعن الأرض. من هنا يتعالق العنوان مع لوحة الغلاف ليكوّنا دلالة النصّ، فالأرض تساوي الحياة، والحياة لا تستمرّ إلّا بوجود الشمس، والشمس هي الأمل والحريّة المنشودة، ممّا يعني أنّ الأرض لن تقدّم بعثها، ولن تُنبِتَ زرعها إلّا بوجود شمس الحريّة، ولأجل شمس الحريّة ندفع.
ولمّا كان اختيار العنوان متماهيًا مع أدب السجون في سعيه إلى البحث عن الحريّة والانعتاق كانت النهاية هنا مختلفة، حيث ينتهي أدب السجون عادة بتأكيد الكاتب على خروجه محبطًا مغتربًا عن واقعه، إلّا أنّ الكاتبة عزمت على إنهائها بروح الأمل والتفاؤل، وذلك بعنونة الفصل الأخير بـ”الولادة الجديدة”، مؤكّدة على حريّتها بقولها:”أهي لحظة الميلاد وأنا الوليد الذي يطلّ برأسه خارجًا من الحياة؟ وأنا أرغب في الصراخ.. صرخة فرح بالحريّة بعد حياة سجن راكدة كمياه المستنقع، صرخة فرح بالصمود رغم كلّ شيء”.
وعلى الرغم من أن حريّتها مرهونة بالطرد من وطنها إلّا أنّها لم تنه سيرتها إلّا وهي تؤكّد عودتها من خلال مدّ حرف الواو وتكراره ستّ مرّات “سأعوووووود”.. مصرّة على أنّ شمسها لن تنطفئ.
ولعلّها في توظيفها لأسطورة طائر الفينيق وتشبيه شعبها به تؤكّد على بعث الأمل من الألم، والحريّة بعد القيد. فليس طائر الفينيق إلّا رمزًا للتجدّد والحياة، إذ يموت ويبعث حيًّا من رماده ليولد من نفسه طائر فينيق جديد.
ولمّا كانت الحداثة ناتجة عن أزمنة القهر والتهشيم فإنّ هذا الكتاب يتبع لها من هذه النقطة، مرتكزًا على تقويض الحبكة التقليديّة وتهشيم التسلسل الزمنيّ، إضافة إلى التناصّ والأسطورة وآليّات تيّار الوعي وغيرها.
ثمنًا للشمس: حكاية الأنثى والنضال
ليست المرأة السجينة هنا بالمرأة التقليديّة، التابعة أو المهمّشة، بل هي المتعلّمة، المثقّفة، المناضلة، المتمرّدة على التابو السياسيّ والاجتماعيّ. هي المرأة التي تبادر إلى كلّ شيء، حتّى لو زجّ بها إلى السجن، ساعية إلى تقويض التابوات الذكوريّة التي تقصي المرأة عن صنع القرار.
ولأنّ المرأة ترى بالكتابة تحرّرًا ومنفذًا، تكتب عائشة سيرة ذاتيّة نسويّة من أدب السجون. وما تجربتها إلّا جرأة على إجهار الصوت في زمن الصمت، في زمن كان ولا يزال صوت الأنثى يعتبر تمرّدًا أو مخالفًا. فتكتب، وتحوّل حياتها الشخصيّة إلى مادة أدبيّة. إنّ الكتابة أمل يبقيها على قيد الحياة، لتتماهى شمس الكتابة مع شمس الحريّة.
عائشةُ هي شهرزادُ أخرى، تحكي حكايتها، وسيافُها السياسيّ خلفَ باب ذاكرتها، لكنّها تؤمن بقضيّتها وتتمسّك بحقّها. هي حكاية المناضلة الثائرة على ثقافة مجتمعٍ ترى المقاومة حكرًا على الرجل دون المرأة. هي حكاية جرأة لا تقلّ عطاء أو تضحيةً أو نضالًا عن الرجل. فتقول عائشة:”أنا التي كرهت أنوثتها لأنّ أيًّا من الرجال له الحقّ أن يقرّر ويصدر أوامره لها، هكذا لا لشيء إلّا لكونها أنثى. واعتقدَتْ وحلُمَتْ أنّ سيرها في الطرق الصعبة التي يسير فيها الرجال، وتحمّلَها مسؤوليّاتٍ ليست أقلّ من مسؤوليّاتهم، قد حصّنتها من مصادرة إرادتها!”(ص 280).
هي أنثى تدرك معنى “اللّا” وتردّدها، بل تؤمن بجبروتها، لتنبثق “اللّا” من جديد حين يثقل اليأس وتُزهق الروح، فتنفض “اللّا” الموتَ عن روحها، لتشرق الشمس بعد طول غياب.
“ليكنْ، لا بدّ لي أن أرفض الموت”؛ هي لازمة كرّرتها عائشة مرّاتٍ، فهي الرافضة للموت، هي الشمس التي تأبى الفناء.
منذ أن توحّمت أمّها وهي حامل بها على تراب أحمر وأكلته بمتعة تولّد فيها حبّ الأرض، فالأرض هي الوطن، هي الأمّ والبعث والحياة.
والحياة ضدّ الموت والخنوع، لكنّ الحياة في ظلّ مجتمع ذكوريّ لا تكون لأنثى إلّا إذا تمتّعت بجرأة ورفضت الخضوع، متحدّية جمر التقاليد ورجم الأعراف. ولكن عائشة ومنذ الطفولة لم تخش من أن تحرق قدميها بهذا الجمر، وأن تحمل في دمائها رفض التبعيّة. ومنذ ولادتها حملت باسمها حلمها بأن تعيش، فالحياة حلم، والحياة لا تكون بسجن أو بقيد.. فعائشة هي اسم الفاعل من “عاش”، وعائشة، لا ترضى إلّا أن تكون هي الفاعلة الحرّة، السيّدة الحرّة، اسمًا على مسمّى.
ومنذ صغرها تجلّى التمرّد والإصرار على التعلّم، باحثةً عن طريق الشمس على الرّغم من صعوبة العيش، رافضة القبول بإغلاق مدرسة البنات عام 1955: “فكّرت لماذا لا أدرس في مدرسة الأولاد؟ ألسنا نلعب في الحارة معًا؟ فلماذا لا نتعلّم معًا؟” ولا تستسلم حتّى تقنع والدتها بأن تتعلّم في مدرسة الذكور بعيدًا عن قريتها.
كما تتجلّى عزيمتها وثورتها على المجتمع حين حاول منعها من مواصلة دراستها. كانت ستترفّع إلى الصفّ الثالث الإعداديّ، وكانت الوحيدة من قريتها التي تتابع دراستها في رام الله، جاهدت نساء القرية في تحريض الأم ضدّ تعليمها: “شو بدّك في وجع هالراس، بكرة بتصير تكتب رسايل للشباب، شو بدها تفيدك حجّتك بعدين؟”(ص62). لكنّ عائشة تحاول إقناع الأمّ بشتّى الطرق وصولًا إلى إعلانها الإضراب عن الطعام، ومع نهاية يوم الإضراب الأوّل تخضع الأمّ لرغبتها وتعيدها إلى المدرسة.
ثم،ّ ألَمْ تظهر جرأتها منذ أن قفزت وهي طفلة من شرفة المدرسة لتثبت نظريّتها حول القفز الآمن؟ ثمّ أليس إصرارها على القبض على الضفدع الذي استخدمه الأولاد كسلاح لإخافة صديقاتها كان رسالة واضحة للأولاد الذكور أنّها لا تقلّ عنهم أبدًا، ومثلهم لا تخشى الضفدع؟ ثمّ ألم يكن رفضها لمقولة ابنة عمّها لها “الله يستر عليك” حين زارتها في السجن، ثورة على مدلولها الاجتماعيّ السلبيّ؟
ولعلّ غضبها على المحامي أنطون جاسر يكشف عن جرأتها حين خاطبها قائلًا: “ما كان لك أن تزجّي بنفسك في السياسة وتدخلي السجن.. كان من الأفضل لك البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات، فذلك خير من أن تكوني سجينة” ( ص 50). لكنّها تصفعه بقولها: لست سجينة.. أنا أكثر حريّة من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربيّة الذين يقبعون في بيوتهم مكبّلين بخوفهم .. هم السجناء لا أنا.. كان من الأجدى أن تدعو هؤلاء كي يتحرّروا من خوفهم مثلي، لا أن تدعوني كي أصير مثلهم”( ص 50).
إذًا، كيف لمناضلة حرّة أبيّة أن تترك رجلًا يصفعها بكلامه هذا؟ هي صفعة رأتها تمثّل كلّ القوى التي تريد أن تبقي حالة تخلّف أوصلت شعبها إلى الهزيمة، بل تهدف إلى تهميش المرأة وإقصائها. فكيف تقبل بإهانة كهذه وهي الساعية إلى تحقيق التحرّر لنفسها وجنسها وشعبها؟
وكم لعبت الصدفة دورها في دلالة اسم عائشة عودة، مع أنّنا نتحدّث عن اسم واقعيّ حقيقيّ ليس محكومًا بالخيال، فها هي عائشة رفضت طوال حياتها أن يحكم عليها بالموت أو بالتهميش، بل بحثت عن الحياة ونبضها الدافق أبدًا. وها هي عودة لا تنهي سيرتها إلّا بتأكيد العودة، العودة المحكومة بالحياة، لا بالموت، وحيث يجب أن تكون.
وبعد كّل هذا، ألا تتكشّف لنا شخصيّة عائشة وسيرتها؟ أليست هي الثائرة على كلّ محبط قامع؟ أليست هي التي تنبض شمسًا وترفض قيدًا؟ لا غرابة إذًا أن تكون فلسفة عائشة بقولها: “فلسفتي أنّ الأسوأ هو ركود الحياة على الوضع نفسه دون جديد”(ص264).
إذًا من ينبض حياةً ويتدفّق تجدّدًا يعي جيّدًا أحلام الأحياء، لأنّ “الموتى لا يحلمون”.
د. لينا الشيخ – حشمة