عن علو المنزلة والطموح، ودفع الثمن
تاريخ النشر: 23/07/17 | 10:07يقول الشاعر:
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها *** فليس ترمي سوى العالي من الشجر
وفي رواية أخرى: فما تضرُّ سوى العالي من الشجر.
نُسب هذا البيت لجعفر بن الفضل- ابن حِنْزابَة، وهو يعني في تشبيه التمثيل أن الإنسان ذا المكانة العالية هو الذي يكون عُرضة للشدائد.
(ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج7، ص 165)
يقول شاعر آخر مذكِّرًا أن الثمام وهو من الأعشاب الصغيرة يبقى على حاله، فلا يتأثر من هبوب الرياح، بينما قد تستأصل الأشجار العالية.
كالريح إنْ عصفتْ تُبقِي الثُّمامَ على *** حالٍ وتسْتأصلُ العالي من الشجرِ
يذهب شاعر آخر إلى ضرورة التواضع، وعدم الكِبر، ويذكّر الشخص المتكبر بقصة الريح والشجرة العالية:
رُوَيدَكَ يَكفي بعضُ كِبرك إِنَّهُ ** على الشجر العالي يُخاف من الكسرِ
وهذا المعنى ذهب إليه الشافعي، وبصورة أخرى:
وفي السماء نجومٌ لا عدادَ لها *** وليس يكسف إلاّ الشمس والقمرُ
لا أعرف إذا كان في ذلك بعض العزاء، ولكنها سنّة الحياة أن تجد العالي هو الذي يكون هدفًا للإيقاع به، وكما نقول في الدارجة “منظور”.
ذلك لأن القادة أو السادة أو الشخصيات البارزة تكون في بروزها غالبًا موضع حسد أو تهجم أو معاداة، ومع ذلك كثيرًا ما يتملقونها.
إن الذين في الصدارة يبرزون فعلاً أمام السهام، ويتلقَّون ما لا يتلقاه اللئام، وعلى ذلك يقول المُغيرة- شاعر آل المهلب:
إن العرانين تلقاها محسَّدَةً *** ولن ترى للئام الناس حُسّادا
ويقول في ذلك شمس المعالي قابوس:
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا *** هل حارب الدهرُ إلا من له خَطرُ
يقول ابن الوَرْدي في لاميته، وهو يعي موقف المجتمع عادة من الرؤساء:
إن نصف الناس أعداءٌ لمن *** ولِي الأحكامَ، هذا إن عدلْ
فالذين ينظرون إلى من في القمة غالبًا لا ينظرون بعين المحبة والرضا، فتصوروا ما قاله ابن الوردي: حتى لو كان الحاكم عادلاً فله أعداؤه، فكيف إذا كان جائرًا؟
لنقرأ في هذا وصف المعري أمراءَ القوم الظالمين:
مُلّ المُقامُ، فكم أُعاشِرُ أُمّةً *** أمرَتْ بغير صلاحها، أُمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها *** فعدَوا مصالحها وهم أجراؤها
لكن ذلك لا يعني ألا نطمح، نطمح حتى نكون في موقع الصدارة- الطموح إلى علو المنزلة وارتفاع الشأن.
في هذا السياق تحضرني قصة جبران خليل جبران “البنفسجة الطموح”، وهي من مجموعة (العواصف) ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران بالعربية- ص 473.
وهي تحكي قصة البنفسجة التي أرادت أن تكون كشجرة الورد العالية، ولم تكن تدري أنها ستدفع الثمن إذا اعتلت قامتها، وأوجزها لكم:
سمعت الطبيعة ما دار بين الوردة والبنفسجة، فاهتزت مستغربة.
ثم قالت: ماذا جرى لك يا بنتي البنفسجة؟! لقد عهدتك لطيفة بتواضعك، عذبة بصغرك،
أتراك استهوتك المطامع القبيحة أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟ أنت لا تدرين ما تطلبين، ولا تعلمين ما وراء العظمة من البلايا الخفية. فلو رفعت قامتك -كما تودين- وابدلت صورتك وردة لندمت حين لا ينفع الندم.
قالت البنفسجة: دعي كياني يتحول الى وردة مديدة القامة، مرفوعة الرأس، وعندها لا آبه لما يحدث، لأنه من صنع إرادتي.
وسرعان ما تحولت البنفسجة الى وردة زهية، متعالية فوق الازهار والرياحين.
ولما جاء عصر ذلك النهار تلبد الفضاء بغيوم سود، وهاجت سواكن الطبيعة، فأبرقت وأرعدت، وأخذت تحارب تلك الحدائق بجيش من الأمطار والرياح، حتى كسرت الأغصان، واقتلعت الأزهار المتشامخة، ولم تبقِ إلا على الرياحين الصغيرة التي تلتصق بالأرض، أو تختبىء بين الزهور.
رفعت إحدى صغيرات البنفسج رأسها، فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها من دمار، فابتسمت فرحة، وقالت لرفيقاتها: ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة.
وقالت بنفسجة أخرى: نحن نلتصق بالتراب، لكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء.
وقالت بنفسجة ثالثة: نحن حقيرات الأجسام، غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا.
لكن جبران ينتصر للبنفسجة الطامحة، فيجعلها تخاطب زميلاتها:
“لقد عشتُ حياة الوردة ساعة كحياة الملكة، مكنتني من النظر إلى الكون، وملامسة النور.
فهل بينكن من تستطيع ادعاء هذا الشرف؟”
تبقى للرياسة والمكانة العليا تبعاتها، وثمة ثمن يُدفع، والريح قد تقوى على كل علو، لكنها لا تستطيع أن تلغي معنى الطموح حتى لو انتصرت.
يبقى السؤال:
هل ترغب أن تكون بارزًا عرضة لكل ريح؟ وقد تُرجَم، أو تُكسف وتُعادى في طموحك وشموخك؟
أم تريد أن تكون كالبنفسجات الصغيرات في قصة جبران؟
ب. فاروق مواسي