إختراق الحصار
تاريخ النشر: 09/08/17 | 0:24خرجنا – أنا وزوجتي صفاء – من مكتب المحامي ,ونحن مشدوهين ..
قادتنا السيارة الى بيتنا , دون ان ننطق, ولو بكلمة واحدة..
لقد أورثنا أبوها معظم أملاكه..!
حاولنا ان نزوره , خلال الأسابيع التي قضاها مريضاً في المستشفى , فرفض كل توجهاتنا ..رفض ان يرى ابنته وأحفاده,
بالرغم انه كان على علم أن أيامه قليلة , في هذه الدنيا ..
**************************
“إذا اقتربتَ من ابنتي ” سأطخك ” ..
هذا ما زعقه في وجهي ..عندما أوقف سيارته بمحاذاتي ,أثناء سيري في الشارع الوحيد الذي تتجمع حوله بيوت الحارة .
**********************
سلامي الحافظ – كان ابن السلطة .!
فتحت عيني ,وسيارات الشرطة والجيش ,دائمة الركون أمام بيته , كانت جزء من طفولتنا ..
في السابعة من عمري, قالت لي أمي بصوت خفيض :” لا تقترب من بيت دار سلامي.!” .
ولما سألتها عن السبب , قرّبت فمها من أذني ,وهمست بصوت أخافني : ” هذول عُملا ..” .
فمنعني الخوف الذي ” دبته بي “,من سؤالها ماذا تعني كلمة “عُمَلا ” !
ومرت سنوات طوال ,حتى عرفت معناها ..
أما نحن أولاد الحارة ,فقد سمينا بيتهم ” بيت الطَّخ ” بسبب طلقات النار, التي كانت تطلق منه في النهار, وتقلق منامنا في الليل .
كان بيتهم في حارتنا .. ولكنهم كانوا يعيشون في عالم آخر , بعيداً عنا ..لا يقترب منه أحد ..!
**********************
وعندما دخلت الى مقصف الجامعه .. واصتدمت عيناي بها, تتناول قهوتها على طاولة , اضطررت المرور بها , قاصداً طاولة أخرى , لم ألتفت إليها ..مررت بها كأني لا أعرفها .
لقد تصرفت, كما عملت في كل المرات, التي التقيت بها في الجامعة ,أو في أماكن أخرى .
ولكن في هذه المرة ,حدث أمر لم أتوقعه ..
خرجتُ من المقصف, بعد ان أنتهيتُ من تناول فطوري , وسرت ُفي طريقي متوجهاً الى قاعة المحاضرات ..
لم ابتعد سوى مسافة قصيرة عن المقصف .. وإذا بصوت يناديني من الخلف :” سامر ..! سامر ..!”
إلتفتُ إلى الخلف .. وقبل ان أتبين من المنادي , كانتْ هي ..صفاء
تسير بجانبي ..!
” إحنا جيران ..أولاد حارة ..!
تمر بجانبي .. نلتقي .. ولا كأني هون ..!
وكأن كل واحد منّا من كوكب آخر ..!
أكملت محاولة شدِّي ,من الصدمة المفاجئة ,التي أوقعتني في ذهول شديد ..
حاولت ان أخرج كلمات من فمي, فعلقت تتعثر على شفتي ..
فانقذني مفترق طرق ,كانت مضطرة أن تفارقني فيه ..ولكنها قبل ان تبتعد عني قالت :
لن تفلت مني ..! سأمسك بك ,مهما حاولت الهروب مني .!
وغابت عن ناظري .. وتركتني أغوص في حوام مجنون !
واستطاعت ان تحصل, على رقم هاتفي, من أحد طلاب بلدي, يدرس في نفس الجامعة ,واتصلت بي, قالت ودون مقدمات
” سنلتقي في حديقة الجامعة ..!”
ولم تعطني فرصة الرد ..
والتقينا..وقبل ان نجلس على المقعد, قالت مستفزة :
الآن ستتحدث مع ابنة “دار الطخ .! بنت العُملا ..!”.
ماذا تريدين مني ..!؟ رددتُ باستفزاز ..
أُريدكَ ..! قالتْ .. وعيناها تطفحان تحدياً.
ولكن ثمني غالي .! رددت قاسياً.
مستعدة أن أدفع الثمن , مهما كان غالياً ! ..قالت بانكسار..
وهربتُ الى الحديث ,عن حياة الجامعة ومتاعبها ..
وفي اللقاء الثاني ..
بكتْ ..
بكتْ.. على ضياع طفولتها في الحارة ..
بكتْ.. من آلام جروح المقاطعة, التي عانوا منها ولم تندمل..
بكتْ من وصمة العمالة, التي لصقت بأبيها , وورثوها في حياته ,وسيرثوها في مماته .!
بكتْ وأبكتني معها ..
و نسجنا حباً وليداً من الدموع ..
وفي أحد اللقاءات ,أخبرتها أننا سنقوم بمظاهرة , إحتجاجاً على المذابح, التي يقوم بها جيش الإحتلال ,في مخيَّم جنين ..
وأنا سأشترك فيها .! طارتْ تحتضن الفكرة ,كأنها وجدتْ حبلاً ينشلها من قاع بئر عميق ..
وكانت من بين أوائل الطلاب ,الذين وصلوا الى مكان بداية انطلاق المظاهرة ..
وسارت في الصف الأول ..تهتف معهم بسقوط الأحتلال .. والحرية لشعبنا ..
متحدية كل ما وضعتْ أجهزته من قوات ..
وتم اعتقال عدد من الطلبة.. كانت هي من بينهم ..
بعد انتهاء المظاهرة ,توجهتُ مصطحباَ أحد المحامين, الى مركز الشرطة ,في محاولة لإطلاق سراحهم ..
فالتقيتُ به هناك ..التقيتُ بأبيها هناك .. اتصل به أصدقائه من رجال الشرطة ..وطلبوا حضوره ” ليستلم” ابنته !
كان وجهه كالمقطرة السوداء ..
ابنته تتظاهر ضد الدولة .!؟ وتشتبك مع أحبائه رجال الشرطة..!؟
اطلقوا سراحها , ولكنها رفضت ان ترافقه عائدة الى البيت ,إلا بعد إطلاق سراح, رفاقها من المعتقل .!
جلست على باب مركز الشرطة ..ولم تستجب لكل محاولاته,
لأقناعها بالعودة معه ..
فاضطر ان يتوسط لهم ,لدى أصدقائه الشرطه.. فكفلهم , ولما خرجوا ,تركته وعادت معنا الى الجامعة .
وفي المسا ء ,اتصل بي تلفونياً ,وصرخ في أذني كالمجنون : ” للمرة الأخيرة أنذرك ..إن لم تبتعد عن ابنتي سأقتلك ..! “.
وطرق الهاتف , ولم يعطني الفرصة ,لأنطق بكلمة واحدة .!
وتأكد من أنه “سيفقد” أبنته الوحيدة , ان لم يوافق على زواجنا ..
كانت سنتزوج رغماً عنه.
فوافق مضطراً , فعمل لها حفلاَ كبيراَ , دعا إليه كل معارفه من الشرطة , وحرس الحدود .. وطخ طخاً خزّق آذان أهل البلد .!
ولكنه مات دون ان يزورنا , أو يسمح لنا بزيارته في بيته .!
قصة بقلم : يوسف جمّال – عرعرة