العالمية من خلال بطولة ألعاب القوى ببريطانيا
تاريخ النشر: 15/08/17 | 14:30إنتهت البارحة البطولة العالمية لألعاب القوى 2017 المقامة ببريطانيا، واستطاع صاحب الأسطر أن يقف على بعض مظاهر العالمية والمجتمعات المتقدمة وهو يتابع البطولة يوميا عبر فضائية أبو ظبي الرياضية 2 ويسجّل ملاحظاته يوميا ، فكانت هذه العبر:
العداء الأمريكي غاتلين يفوز بالذهبية في سباق 100 متر ويزيح بولت من العرش وهو الذي كان يحلم بالخاتمة الذهبية بعد أن تحصّل على النحاسية. وبعد اجتياز خط الوصول توجّه الفائز إلى بولت وانحنى أمامه تقديرا لمجهوداته السّابقة واحتراما لألقابه وأرقامه. أريد أن أقول: لاتنسى وأنت تعتلي القمّة أن تعرف فضل من سبقك للقمّة.
أتابع الآن سباق المارطون وإلى غاية نهايته الذي دام 02سا و28 دقيقة بالنسبة للعداءة الأولى، ومالفت انتباه المتتبع أن: لندن وهي عاصمة الدنيا لاتشهد ناطحات سحاب لكنها قوية بهندستها العريقة، وشوارعها الواسعة النظيفة، ومجتمع يشجّع الأصفر والأبيض والأسود والأحمر دون تمييز لدين أو لغة أو وطن، ودقّة التنظيم، وبراعة التوجيه، والبساط الأخضر، والأشجار الباسقة المظلة، حتّى أنّه يخيّل لك أنها في فصل الربيع وليس في شهر أوت، وكل الإعلانات التي استطاعت العين أن تلمحها باللغة الإنجليزية على المحلات والطرقات واللاّفتات. هناك حضارة تملك عروقا في الأرض فلا يخشى عليها السقوط، وهناك حضارة فاقت أصحاب العروق الراسخة بناطحات السحاب لكن يخشى عليها الانهيار لأنها بنيت على أرض ليّنة وافتقدت للجذر المنيع فهي عرضة لأول زلزال وأول موجة تهز الأركان، وخير الحضارات من ملكت الأرض والسّماء.
الرياضيون من جنسيات مختلفة وأديان مختلفة يدخلون الملعب بملابس رياضية نظيفة جميلة تسرّ الناظرين فيضيفون لجمال الأداء جمال المنظر. وأنظر من حولي فأرى بعض المصلين يدخلون المسجد بملابس وسخة بالية عفنة، وأرى بعض الطلبة والموظفين والأساتذة يدخلون المدارس والجامعات بملابس مهينة مقزّزة للأنف والأنفس.
العالمية جهد وأداء واحترام، ينالها صاحبها بما قدّم من عرق دائم ووسيلة مناسبة وسهر مستمر، فينال احترام الجميع ويقدّم على غيره ولا ينازعه أحد على الريادة إلى أن يأتي من يملك مقوّمات الخلافة فينالها بحقّها ويظلّ على ذلك إلى حين. العالمية لم تكن يوما حكرا على دين ولا جنس ولا لون ولا منطقة جغرافيا فهي ملك من ملك أسبابها وأدواتها. وهكذا في الفهم والحضارة والدين فلا يفرض رأي ولا شيخ ولا مذهب ولا دولة ، والاحترام لمن ملك أدوات الفهم وقدرة الاستنباط ولا يهم بعدها أيّ شيخ أو مذهب أو جغرافية يتّبعها، فعالمية الفكر والتحليل والاستنباط ليست حكرا لأحد ولا يدّعيها أحد.
أنظر لجدول الميداليات فأرى كل الأجناس ولا أرى العرب، وأعود للدول الصناعية السبع الكبرى وأعضاء مجلس الأمن والاختراعات وبراءات الاختراع والبحوث العلمية ذات الطابع الدولي العملي فلا أجد العرب. العظمة كل متكامل ومن كان كبيرا فيما يسميه الصغار “لهوا” فهم الكبار في الجد الذي يعرف قدره الكبار.
البطل العالمي الأمريكي كام كاندريكس في القفز بالزانة، ينحني أمام البطل العالمي الروسي بوبكا وهو يزيّن صدره بالذهب. الكبار ينحنون للكبار لأنهم يعرفون قدر الكبار.
من مظاهر العالمية: قدور إيطالي، والأسود أذربيجاني. لم يعد اللون والجنس والمذهب والطائفية معيارا لدى الكبار.
عرب الجاهلية كانوا يغنون للإبل ويطربونها شعرا حتى تستريح وهي تحملهم لمسافات بعيدة. وأتابع البطولة العالمية لألعاب القوى كيف يدخلون الأبطال الملعب على وقع موسيقى هادئة تريح البطل والمتفرج.
بعد منع روسيا من المشاركة بسبب فضيحة المنشطات، البطلة الروسية تنال الذهب وتعتلي منصة التتويج دون ارتداء العلم الروسي ولا عزف النشيد الروسي. ومعروف عن المنظمات الدولية والقارية الرياضية أنّها تحرم الدول من المشاركة إذا تدخلت في الرياضة حتى تبقى الرياضة بعيدة عن السياسة. أريد أن أقول: نحن بأمسّ الحاجة إلى طرد وحرمان كل مفكر ومثقف وكاتب وفقيه يعتمد على المنشطات الفكرية التي يتظاهر بها أمام النّاس على أنّه فريد عصره ووحيد زمانه وهو أصغر الناس وأقلّهم علما وفقها، وبهذا تصفو السّاحة لمن ينال القمّة بحقّها ودون منشطات فكرية فاسدة مفسدة.
في الأخير سألني أحد القراء: لماذا تتابع البطولة العالمية؟، فأجبت قائلا: لأستخرج منها مايفيد بقدر ماأستطيع من حيث الدّقة والتنظيم والسهر والاحترام وعدم الاستسلام لليأس والمثابرة وتجاوز الأحقاد وتعايش الأجناس والألوان وتكريم العرق ومكافأة السهر والاعتذار عند الأخطاء والرفع من شأن الفائز وتقدير المنافس ومصافحة الفائز للمنهزم ومعانقة المنهزم للفائز وأن النصر ليس حكرا لأحد واعتلاء القمة ليس بالحسب ولا بالنسب إنّما بأسبابها العالمية والتي تتعدى الدين والجنس واللون. وبالمناسبة كتبت مقالات عديدة في هذا الشأن أعدّد فيها وفي كلّ مناسبة العبر الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية التي استطاع المتتبع أن يقف عليها.
معمر حبار