الشارب المَمْعـوط
تاريخ النشر: 20/08/17 | 0:54انا لستُ ارثوذكسيا ولكني اعتبر ان الكنيسة العربية الارثوذكسية هي بحقّ ام الكنائس، وبالتالي فإنَّ امورها تهمّني جدا، فضلا عن قناعتي المطلقة بان اراضي الاوقاف، كل الاوقاف، هي جزء لا يتجزأ من اراضينا التي هي جذورنا في ارض وطننا الذي لا وطنَ لنا سواه. هذه الاعتبارات جعلتني اتابع كل ما قيل ونُشر في الاسابيع الماضية، سيما ما كتبه الصديق الاستاذ المحامي جواد بولس، عن “صفقات عقارية جديدة تمّت بين المسؤولين (اليونانيين) في الكنيسة الارثوذكسية المقدسية وجهاتٍ يهوديةٍ عديدة، بموجبها حوّلت الكنيسةُ حقوقا لها في العديد من العقارات والاراضي الى تلك الجهات… بابخسِ الاسعار… علمًا بان تخمين هذه العقارات قد قدر قيمتها الحقيقية بمليارات الشواقل… “.
لقد اعتبر الاستاذ جواد بولس ان ما حدث ويحدث في عقارات الكنيسة الارثوذكسية في القدس ويافا والرمله وعكا وقيساريا وغيرها “مذبحةً مستمرةً للتراب الفلسطيني… وذلك رغم توقيع البطريرك ثيوفولس امام السلطة الفلسطينية على رزمة من التعهدات: اهمها عدمُ التفريط في عقارات الكنيسة، والعملُ على استرجاع عقارات كانت موضوع عقود وصفقات بغيضة، ووعدُه بتسليم السلطة الفلسطينية سجلاتٍ تحتوي على قيود لجميع عقارات وممتلكات البطريركية، وتعهدُه(اي البطريرك ثيوفولس) بشروط اخرى لو نفّذها لتوفرت الحماية للأملاك وتوطدت مكانةُ الرعية العربية وتحولت بعدها الى شريكة كاملة في إدارة شؤون البطركية الدينية والمدنية… لكن السنين مرّت عجافا، ولم يفِ البطريرك بوعده وبما وقّع عليه”. هذا الوضع المؤلم، جعلَ الاستاذَ بولس يتساءل: “من ينقذ امَّ الكنائس من هذه العتمة، أفي تعريب الكنيسة دواء؟”.
هذا التساؤل الشرعيّ حوْلَ عروبةِ رجالِ الدين المسيحيين، كضمانٍ لصيانة الاوقاف المسيحية، جعلَني اتذكّرُ قصةَ “جمعية ابناء ابرشية الجليل” مع الرئاسة الروحية العليا (محليا وعالميا) لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك المميَّزَةِ بكونها كنيسةً عربيةً خالصةً، لغةً ورئاسةً ومؤمنين. لقد كان لي شرف المساهمة في تأسيس “جمعية ابناء ابرشية الجليل” سنة 1989 والمساهمة ايضا في قيادتها باعتبارها مؤسسة قانونية تضمُّ المئات من ابناء كنيسة الروم الكاثوليك في الجليل، الذين تنادوا في اواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، لمجابهة صفقات بيع اوقاف كنيسة الروم الكاثوليك في حيفا والناصرة والرينه وغيرها من مدن وقرى الجليل، بصورة مباشرة او بطرق التفافية خبيثة كالتأجير لفترات زمنية طويلة تجاوز بعضها الفَ سنةٍ وتحديدا حتى 17 نيسان سنة 3018 وفقا لسجلات الطابو الرسمية (راجع كتاب: حاتم خوري، تواقيع على الرمل، 2014، صفحة 24-25) . إنّ نضالنا المثابر ووحدة صفنا، جعلا وفدا بطريركيا رفيع المستوى، يلتقي الهيئة الادارية “لجمعية ابناء ابرشية الجليل” اكثر من مرة ثم يصوغ معنا بعد جهدٍ جهيد، وثيقةً خطيّةً تاريخية، يتعهد بموجبها مطرانُ الابرشية بان “يقدّم للجمعية وللوفد البطريركي ميزانياتٍ سنويةً مصادقا عليها وقائمةً مفصلةً باملاك الابرشية وبالديون المستحقة على المطرانية، كما يتعهد بصورة قاطعة بان يتوقف فورا عن بيع و/او رهن و/او تاجير لفترات زمنية طويلة، لاي عقار من اي نوع كان، من املاك اوقاف طائفة الروم الكاثوليك…” (راجع كتاب “حاتم خوري، تواقيع على الرمل،2014، صفحة 46).
لقد اعتبرنا اننا بهذه الوثيقة قد حصلنا على “رأس كليب”، وان الفساد الاداري المالي في المطرانية سيتوقف فورا، واننا ابتدأنا عهدا جديدا مشرقا في تاريخ ابرشية الروم الكاثوليك في الجليل ممّا جعلنا نعيش نشوة عارمة. لكن عندما عرضتُ هذه الوثيقة على عضو قيادة الجمعية المرحوم الاستاذ نعيم مخول (ابو مكرَّم) الذي لم يتسنَّ له حضور الاجتماعات مع الوفد البطريركي، وقرأ ما تضمنته تلك الوثيقة من تعهدات كثيرة، قال لي مبتسما: ” لا تعوّل على هكذا وثيقة تتضمن كل هذه التعهدات”. إستغربتُ موقفَه ولم احمل حديثَه على محملِ الجدّ رغم تقديري الكبير لشخصه ولخبرته ولعمق معرفته. ذلك لاني لم اتصوّر آنذاك، حتى في اسوأ احلامي، ان وثيقة تحمل تواقيع اربعة مطارنة بينهم امين سرّ البطريركية، لا يمكن التعويل عليها. ولكن عندما حدث هذا فعلا بعد بضعة اشهر، حيث تنكر السادةُ المطارنة ” ببركة” غبطة البطريرك وكلهم عربٌ اقحاحٌ، لتواقيعهم، واصبحت الوثيقة مجرد إعلان نعي لقيمةٍ إجتماعيةٍ نشأنا عليها وتعارفْنا على تسميتها باسم: ” مبدأ إحترام الانسان (كل إنسان سيما من يتدثرون بلباس رجال دين) لكلمته خصوصا عندما تكون تلك الكلمة خطية وممهورة بتوقيعه… “. اقول: عندما حدث هذا فعلا، ادركت بُعدَ نظر المرحوم نعيم مخول وقد كان اكبر مني سنا وتجربة، فسألته عن سرّ قدرته على استشراف الامور. فقال لي رحمه الله: “اولا: إسال مجرب ولا تسأل حكيم. ثانيا: لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين. وثالثا: كثرة التعهدات التي تضمنتها تلك الوثيقة “. سألته مستغربا: “وما علاقة كثرة التعهدات بالتنكر للوثيقة؟”. فاجابني ضاحكا: “دعني اروي لك حكاية الشارب الممعوط”:
سعيد ومسعود شابان في العشرينات من العمر، كانا يعملان في مصنع البسة بجوار قريتهم الجليلية. أقْفِل المصنعُ كغيره من المخائط، فاصبحا عاطلين عن العمل وباتا يعتاشان من مخصصات البطالة التي يدفعها لهما التامين الوطني شهريا. تعودا على حياة الكسل، فمن ديوانٍ الى ديوانٍ آخر، ممّا اكسبهما عن جدارة واستحقاق، لقبَ “ديوانجية مشورابين” إذ كان كل منهما قد اطلق شاربا طويلا ومفتولا… لاحظ سعيد في احدى السهرات ان جزدان زميله مسعود، منتفخ على غير عادة، فسأله:”من اين لك هذه النقود؟”. قال مسعود:”اخذتُ قرضا من الشيخ ابو ادهم”. ابدى سعيد إستغرابه قائلا لمسعود: “طيّب، وشو الضمانات هلي طلبها منك ابو ادهم لسداد (لتسديد) الدَين؟”. قال مسعود: ” الحقيقة انه طلب ان اعطيه شعرةً من شاربي”. إستبشر سعيد خيرا. انتظر بفارغ الصبر صباحَ اليوم التالي، حيث توجّه الى بيت الشيخ طالبا منه قرضا. تأمله الشيخ ابو ادهم قائلا: “تكرم عينك بسّ بدي شعرة من شاربك”. ما ان سمع سعيدٌ ذلك، حتى مدّ يده الى شاربه ومعط(اقتلع) منه خصلة شعر كاملة قدّمها الى الشيخ. مسَكَ الشيخُ خصلة الشعر، وهو يحدّق النظر في عيني سعيد قائلا له: “انا مش رايح اديّنَك، لأنو هالمعط مش معط سداد”.
د.حاتم عيد خوري