الوقف المسيحي في فلسطين أرض ووطن
تاريخ النشر: 27/08/17 | 12:03ما زالت مجموعات صغيرة من الفعّاليات العربية المسيحية تواجه لوحدها تقريبًا آثار ما يتهافت علينا من أخبار صفقات بيع عقارات للكنيسة الأرثوذكسية تمتد من طبريا فقيساريا ويافا وبيت شيمش ولا تنتهي في بيت جالا وجاراتها.
وقد يكون أخطر هذه البيوعات ما نفذ وينفذ في القدس وهو ما أسميته سابقًا “بمذبحة الأرض العربية المسيحية في فلسطين “.
معظم المؤسسات التمثيلية العربية الأرثوذكسية في إسرائيل وفلسطين والأردن شجبت ببيانات صريحة عمليات التسريب الخطيرة التي نفذها المسؤولون اليونانيون المتحكمون في رقبة “أم الكنائس” وفي مقدمتهم البطرك ثيوفيلوس ومجمع مطارنته وبمساعدة عدد من المخططين ومستشاريه القانونيين العرب وغيرهم.
وقد لا نجد اليوم من “يجرؤ” على الدفاع عن ثيوفيلوس ورجالاته بشكل علني إلّا نفر قليل ممن أطعمت أفواههم فاستحت عيونهم وطأطأت جباههم، أو من الطامعين في “مكرمة”بطريركية هنا أو منفعة هناك، أو من الموظفين “الكبار” عند أصحاب النفوذ والقوة والمدفوعين بغرائز “العبيد” مسلوبي الإرادة والرأي القويم.
منذ سنوات يقوم عدد من النشطاء الغيورين برصد ما يقترفه هؤلاء اليونانيون وأعوانهم بحق أرض الوطن ومكانة الكنيسة المشرقية ورعاياها العرب، ويَجمعون، بشقاء النمل وإصراره، الوثائق والمعلومات وينشرونها كي تصبح ملك البشر وفي عهدة التاريخ.
في الماضي كانت مهام هؤلاء أشبه بمن يفتشون عن ذاك “الأبلق العقوق”، فكل المتورطين والشركاء في صفقات الإحكار أو البيع تضافروا على ضرورة إخفاء الحقيقة والوقائع وعملت إلى جانبهم طواقم إسناد مدربة تكفلت بأحكام المؤامرة وببث وتثبيت ما يخالف الرواية الصحيحة وقد نجحوا في مخططاتهم على الرغم مما كشف من معطيات مأساوية ودلائل دامغة على بشاعة الخسارة وخطورتها الوطنية والكنسية.
فلماذا وكيف كان لهم ذلك ؟
الأسود لا يليق بهم!
لسنوات حاولت كتائب الدفاع البطركية مَغمغة ما جرى ويجري بحق أوقاف الكنيسة، ومن أشهر ذرائعهم أنهم يقومون بتأجير العقارات بإجارات طويلة الأمد ولا يبرمون عقود بيع، ولذلك لا يمكن اعتبارهم مفرّطين أو مسرّبين أو مهرّبين لتلك العقارات.
لقد إنطلت هذه البدعة على كثيرين، خاصةً وأنها سوّقت من قبل “سحيجة” البطرك وبعض ضعاف/ طيبي النفوس الذين أعماهم إيمانهم وافتتنوا بلبسة “الأسود”، وكذلك بمساعدة عدة مؤثرات وعوامل وظفت في سبيل تمريرها، وقد أتينا على ذكرها في مقالات سابقة.
لم تكن تلك الادعاءات وغيرها سوى حجج واهية ومحاولات تجميل رخيصة لواحد من أخطر مشاريع الإجهاز على أكبر مخزون عقاري تملكه، في فلسطين الكبرى، مؤسسة خاصة، هي الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية، مشروع سيفضي في نهايته إلى نقل تلك العقارات لصالح جمعيات استيطانية يمينية أو مؤسسات صهيونية عنصرية أو شركات تجارية إسرائيلية؛ ومن لم يستوعب تداعيات افتعال أزمة البطريركية في العام ٢٠٠٥ ومغزى “برشتة ” ثيوفيلوس وإجلاسه على سدة الكرسي البطريركي كان غافلًا أو مغفلًا أو مستغفلًا، فالحقائق كشفت في حينه والغايات فضحت والمخاطر وضعت أمام أصحاب الرأي والقرار في فلسطين والأردن والمؤسسات الوطنية والمسيحية.
إن نجاح ثيوفيلوس ورجالاته بترميد العيون وبتطييب النفوس طيلة أكثر من عقد دفعه إلى الإسراف في أفعاله وتعجيل إنجاز مشروعه وأوصله إلى درجة من “الثقة” بقوة ثوبه اليوناني الأسود التي لا تقر بحقوق عربية ولا بواجبات مسيحية مستقيمة!
لقد مضت سنوات حكمه بسلاسة رغم تفاقم علاقته مع أبناء الكنيسة العرب. ومع أنه لم يف بما تعهد به للقيادة الفلسطينية والأردنية، لم تسائله جهة مسؤولة ولم تغمز هذه جانبه حتى عندما نشرت أخبار صفقات بيع عقارات الوقف، بل على العكس من ذلك، ففي كثير من الأحيان كان بعض المسؤولين يجدون له الأعذار والمبررات، كما حصل مرارًا من خلال مواقف وبيانات “اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس”.
وعندما بدأت الصحافة العبرية بكشف خبايا صفقات البيع وتفاصيلها، اعترف وجاهر بفعلاته وبررها مستهترًا بعقول أحفاد “يوحنا” العرب، ربما لأنه يعتبر نفسه سليل “الشمس”، سيدًا حاكمًا، والفلسطينيين، أصحاب البلاد، ليسوا أكثر من رعايا لا كرامة لهم ولا عدد.
وحين توالت أخبار الصفقات وأوجعت القاصين والدانين بقي ثيوفيلوس ضيفًا مبتسمًا ومرحبًا به على موائد الكبار ونجمًا في المناسبات وفي الإحتفالات الوطنية الرسمية.
وعلى الرغم من معرفة الجميع أنه لم يكن لينجح بتنفيذ “مهمته” من غير وقوف معاونيه ومستشاريه القانونيين معه، كانوا هؤلاء يستقبلون في الستر والعلن وكما يليق بإصحاب “القرمزي” الناثرين رذاذهم في غمائم من بخور وسحب من طيب ومن عسل .
القضية ليست مجرد مسألة كنسية بل هي جزء من وطن،
في الواقع وعلى الرغم من ضعف ردود الفعل على ما نشر من صفقات بيع خطيرة بدأنا في الآونة الأخيرة نلحظ تبرعم وعي يشي بتذويت جهات مسيحية وإسلامية جديدة لأبعاد القضية وإقرارها بأن مسألة بيع عقارات الكنيسة الأرثوذكسية هي قضية وطنية خطيرة ويتوجب على جميع القوى والجهات الرسمية والسياسية أن توليها إهتمامًا فوريًا وجديًا.
كثيرون تنبهوا بشكل خاص على أن سيطرة جمعيات استيطانية يهودية يمينية على عقارات إستراتيجية في “باب الخليل” و”باب حطة”، كما جرى مؤخرًا، إضافة إلى سيطرتهم على عقارات أخرى داخل الأسوار، سيفرغ من مضمونه الفعلي الإدعاء حول حق إحلال السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية وبضمنها على منطقة البلدة القديمة، وسيجهض، في نفس الوقت، المكاسب التي حققها المقدسيون في معركتهم الأخيرة وذلك لأن السيطرة اليهودية على ذينك البابين ستحكم الخناق على منطقة المسجد الأقصى.
في ندوة دعى إليها المجلس المركزي الأرثوذكسي والشباب العربي ألأرثوذكسي يوم الإثنين الفائت في رام الله وشارك فيها حضور واسع، برزت من بينه، بشكل لافت، قيادات فصائل وطنية فلسطينية وشخصيات قيادية وإعلامية هامة، أجمع المنتدون على أن قضية الوقف الأرثوذكسي هي قضية وطنية؛ وتحت هذا العنوان كتب بعدها الصحفي عمر حلمي الغول مقالًا هامًا قال فيه أن “حماية أراضي الوقف الأرثوذكسي هي مصلحة إستراتيجية فلسطينية وهي معركة وطنية بإمتياز..” كما وأكد من خلال رؤية وطنية شاملة على ضرورة “ملاحقة كل من ساهم في تسريب أو بيع عقار من عقارات الكنيسة عبر القضاء الفلسطيني.. والعمل من قبل الكل الوطني، شعبيًا ورسميا، على عزل البطريرك ثيوفيلوس”.
تركت هذه الندوة بحضورها المتنوع والمميز شعورًا بأن القوى الوطنية لا تقبل ما يقوم به ثيوفيلوس ورجاله وبأن هنالك بشائر خير وأمل على أن العتمة السائدة في “أم الكنائس” قد تنقشع قريبًا.
وفي تزامن مع تلك الندوة وبما يدعم تلك البشائر كتب قبل أيام غبطة البطريرك ميشيل صباح مقالة هامة جدًا بعنوان “بقاء المسيحية في القدس..والتصرف بالوقف” شرح فيها معنى وجود الكنيسة والوقف وعلاقة ذلك بأبناء الكنيسة، لكنه أكد بشكل واضح على أن “في يومنا هذا يسمع المؤمنون عن صفقات بيع وتأجير من قبل الكنيسة لها تبعات سياسية خطيرة عليهم وعلى الكنيسة.. بعض الأوقاف في باب الخليل وضعت في أيدي جماعات متطرفة من أهدافها إقصاء الفلسطيني المسيحي أو المسلم على السواء..”
فثيوفيلوس ورجاله ليسوا أقوياء كما يشعر البعض بل هم يعرفون أن من يقف في وجههم ضعفاء وعاجزون، لأن المسيحيين العرب قلة قليلة غارقة في تيهها ويأسها، وقيادات “عرب الداخل” تلهث وراء “كرسي” ومنحة وندى ومطر، وفي فلسطين فقدت فصائل وحركات كثيرة بريقها والبصيرة والبصر، ويعيش شعبها في حيرة وضيق ويعاني من ذاكرة هرمة مشوشة ومن سوء الطالع وقسوة القدر، وبين “العامة” تبقى قضية أوقاف المسيحيين ليست أكثر من حرب بين الفرنجة والفرنجة، ولذلك لا شيخ يستنفر العباد ولا إمام يستمطر حجارة السجيل ولا خطيب يستشفع برب السماوات وليرع “بطرس بقره في حقول ديرهم”.
أهي قضية دير ورعية وبشر؟
لا أبلغ، للإجابة على ذلك، مما كتبه ابن فلسطين، غبطة البطريرك ميشيل صباح، قبل أيام حين قال: “فالوقف هنا في فلسطين؟ الوقف أرض والأرض في فلسطين هي موضوع صراع. والوقف أرض فلسطينية، وتمريرها إلى شعب آخر في حالة حرب هو عمل حرب. هو خروج على الشعب، وعلى المؤمنين، وخروج على الكنيسة التي رسالتها رسالة عدل وسلام. تبديل ملكية الوقف، أي أرض الكنيسة هو عمل حربي، هو تجريد الكنيسة وتجريد المؤمنين وتجريد فلسطين جزء منها..”
اسمعوا يا أبناء فلسطين نداء “الصباح”، وعوا أن القضية ضياع للوطن. والوقف أرض. والأرض في فلسطين هي أوردة ووجع. وأنتم تقفون على رؤوسكم، كأعمدة من ملح، وتتابعون كيف يقيم الغزاة ولائمهم في شرايينكم و”المجدليات” يبكين على أبواب الهزيمة. أما من قصيدة أما من راع وعلم!
جواد بولس