رسالة إلى الصديق محمد بركة
تاريخ النشر: 01/09/17 | 0:21بداية كل أضحى وأنت معزز بمزيد من الإصرار والصبر والحب وبعد،
مضى عامان بالتقريب، على انتخابك رئيسًا “للجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل”، وما زلت أذكر كيف أهملتُ حكمة التوازن في ريشة القلم واندفعتُ، حينها، كطفل يفلت في صباح العيد صوب الشمس، كي أحضن حلمي الذي توقعت أن يكون ويبقى حلمك؛ ففوزك بذاك المنصب كان بالنسبة لي ولكثيرين من أمثالي فوز جيل عاش “على أرصفة الوطن حين علمتنا تلك كيف تكون اللذة في التقاطنا “خبزنا الحافي”، وعليها تزودنا بالسعادة حين كانت تتنطنط حتى في جراحنا وعلى حافة شهقاتنا وهي ترتجف، قبلنا، في الهواء العاري”.
كان ما ورثته أنت ثقيلًا، ومخازن أصحاب الأرض، عشاق الفجر والندى، أهدرتها، قبلك، زعامات اختزلت حرفة القيادة في ممارسة الوجاهة والخطابة والوقوف على الجراح وفي المنابر.
نجاحك في ترميم “قلعة الجماهير العربية ” بدا للبعض، في معطيات المرحلة، صعبًا. لكننا، نحن رفاقك، عرفنا أن لكل مرحلة فارسها ووثقنا أنك فارس هذه المرحلة فقلنا: “كل البدايات صعبة وقد يبدو التغيير المنشود بعيدًا لكننا نرى أن لدى بركة اليوم ما يكفي من الإرادة والمقوّمات والمعطيات التي تمكّنه وتؤهله كقائد أن يزيل ما راكمته السنين من غبار غطّى وأخفى ما زرعه البناؤون الأولون، آباء بركة ورفاقه، في أراضينا من تحد لا يشيخ ووعد صدّاح بأن “لن تسقط هذه الأعلام / ما دمنا نغني ونقاتل”.
سنه عن سنة والهاوية عم تكبر ..
مر عامان على ذلك الفرح وما بدا للكثيرين عسيرًا صار في الواقع شبه مستحيل، فلقد حططت على “كوكب” عصي ومستوطن منذ عصر الكراسي والمناصب. أرضه لا تعرف تضاريسها الشواغر ولا يقر أهلها بضرورة التغيير والتبديل، فكل حيز فيها عبارة عن “مقعد”، وكل مقعد صار “حصنًا” وكل حصن أصبح ملجأً له كوشان وأصحاب ومناطر.
من أين سيأتينا الفرج؟ ومن سيكون قادرًا على قهر ما تختزنه جيناتنا العربية الصافية وذاكرة تاريخنا الصفراء؟ من سيكون في صفك ويسعى معك بصدره المكشوف لاحراز نصرك/ نصرنا على ذواتنا؟ وهل من “زيّاد” يقاتل “الطاغوت” على جبهة وعلى أخرى يحتفل حين ينتصر نشيده على صلاتهم؟ هذا السؤال قد يكون لهم لكنه عليك أيضًا فأنت اليوم القابض على القوس والنشاب والشعرة.
صديقي أبو السعيد، لقد تخيلنا كم ستكون مهمتك شاقة ومنهكة، فإسرائيل تتوحش بضراوة وساستها يتقدمون على ايقاعات مقام “عجم كرد” في دروب “يوشع”، وأوضاع الجماهير العربية تدهورت في السنوات الأخيرة بشكل مقلق، والبعض يختار المقامرة والمغامرة والسير على المنزلقات الخطيرة ونحو السراب.
ما كان حرامًا باسم الأرض، حين كنا إخوة للنشيد، صار على مذابح الأهواء فكرة شريدةً وحشرجة دوري وقبرة، وما زرع في مساكب هويتنا الفلسطينية الزاهية، منذ علّم حنا وراشد وتوفيق وسالم وسميح ومحمود العالم والغزاة، كيف من بطن الهزيمة تكبر العزة وتشرئب السواسن وتستعاد الحنجرة، استئصل اليوم بمباضع مستوردة وبمعاول مسممة أو مسكرة، وما تكحلت به العيون من أجل الوطن وحُسب “مقدسًا” صار كفرًا أو خربشةً على وجه السماء والقمر.
لقد رحل “أيارنا” من ساحاته الدافئة، ونسيت أجيال “الواتساب” رقصة جورج “الدحبورة” الساحرة على “عين” كفرياسيف، وأطاحت أغاني أليسا وشكيرا بأهازيج النسوة البيض يشققن أبواب السماء ويُرقصن الملائكة الحمر على غنج المطارق والمناجل في شوارع البعنة والناصرة وأم الفحم؛ ورايات “أكتوبر” نزحت عن شوارعنا فصارت الخناجر فيها أعلامًا وزغاريد العصي أناشيد للحمائل وتناثرت حداءات عمال المصانع وتغير المعلمون في المدارس وبعض الطلبة أصبحوا أمساخًا “للعناتر”. النساء أعدن، على أجنحة التخلف والتواطؤ، إلى مراتبهن السماوية “الأصيلة”، فكما ولدن في زمن الرمل سيبقين عورات وناقصات وطلاسم، ومن ستزيح عن خط تلك “الظبية” سيبقر سيف الشرف خاصرتها وليمتلئ الفضاء دموعًا وتنهدات وعيونًا محملقة ونهودًا مجفلة.
من سيخرجنا من الغابة؟
دعني أعترف، يا صديقي، أنني قررت كتابة هذه الرسالة بعد أن لفت أحد أصدقائنا القريبين انتباهي على أنني أكثر في مقالاتي، حسب رأيه، من انتقادي للقيادات العربية على جميع انتماءاتهم وهذا قد “يصب في صالح المتقاعسين الذين لا يفعلون شيئًا في أي شأن ويوارون هروبهم باتهام القيادات بالفشل” ومع أن صديقي يقر بحقي وحق غيري بمناقشة القيادات ومعايرتها والتلويم عليها لكنه يشترط ذلك “بأن يكون في السياق الصحيح فعكسه يعود بالفائدة على الباحثين عن مراكز قوى أخرى أو الذين يستفيدون من أجواء التمييع”.
لن يختلف اثنان حول صحة نصيحة ذلك الصديق “النبيل”، فكيل الاتهامات جزافًا والانتقادات للقيادات العربية من دون سبب أو في غير السياق الصحيح يعتبر تجنيًا واعتداءً صريحًا، ويخدم أعداءنا، خاصة في أجواء استقواء بعض الجهات والأفواه المغرضة أو المأجورة أو المنفوخة وانهيالها، بمناسبة أو بدون مناسبة، على مؤسساتنا القيادية ومن يقف على رأسها.
من الضرورة التمييز بين أولئك “المخربين” وبين من ينتقد باسم المصلحة العامة محاولًا تقويم ما يراه خطأً وغير سليم، حتى لو لم يوافقه المنتقَدون، فالتوقف عن الانتقاد باسم ذلك الالتباس المحتمل مرفوض، فالمشكلة تبقى بنظري في صمت تلك القيادات ازاء ظواهر الاستقواء عليهم وتحديهم العلني من قبل من “بيسوى ومن بيسواش” ومن جهة مدعين أو ساقطين أو مغرضين أو مدفوعين، ففي الآونة الأخيرة سمعنا وشاهدنا كثيرين يتهجمون بشدة ومن دون سبب ومبرر على قيادات وطنية بالاسم أو على المؤسسات القيادية، ولم يحرك كثيرون من المعتدى عليهم ساكنًا، بل التزموا الصمت وكأنهم يتصرفون بنضج ومسؤولية والكل يعرف أن صمتهم نابع عن عجز وضعف ليس إلا.
في الواقع لقد ورد انتقادي الأخير للقيادات العربية بعد غياب موقفها في قضية تسريب عقارات الكنيسة الأرثوذكسية في القدس وغيرها، وقمت، بعد ملاحظة صديقي، بمراجعة موقفي ولم أجد فيه غضاضة، فالصمت في هذه القضية وفي مثيلاتها من القضايا العامة، يعادل قصورًا في مواجهتها وموافقة، في حالتنا، على تلك البيوعات الخطيرة خاصة وكلنا يعرف أن “لجنة المتابعة العليا” وغيرها من المؤسسات الوازنة اتخذت مواقف واضحة ومؤثرة في قضايا عامة ومنها قضية الأوقاف والأماكن المقدسة الإسلامية.
لقد تزامن ما كتبه لي ذلك الصديق مع مشاهدتي لبعض وقائع مهرجان عرعرة الذي أقيم يوم الجمعه المنصرم، ٢٠١٧/٨/٢٥ وبدعوة من لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، ولجنة الحريات، واللجنة الشعبية عارة- عرعرة، وذلك تحت شعار “لا للاعتقالات الإدارية، لا للملاحقات السياسية”.
اختياركم لاقامة مهرجان ضد قضية الاعتقالات الادارية والملاحقات السياسية حق لكم وواجب لا غبار عليه، لكنني تذكرت وأنا أشاهد ساحة المهرجان ما كتبته أنا عندما توليتَ منصب رئيس اللجنة، فتحسرت لأن قناعتي اليوم ضعفت، فأنت، هكذا يبدو “عالق” في داخل تلك الحلقة العليا ولن تستطيع الخروج منها حتى لو أردت.
مع هذا، اسمح لي أن اسألك مستعلمًا أولًا، لماذا يجب أن تصدر الدعوة للمهرجان باسم “لجنة المتابعة” وباسم لجنة منبثقة عنها هي “لجنة الحريات”، فكل من يقرأ اليافطات يستنتج أننا ازاء لجنتين منفصلتين فهل من حكمة ومصلحة من وراء ذلك وما الداعي له؟ وثانيًا، إذا اعتبرت تلك الجزئية هامشية وتقنية، فكيف تشرح ما شاهدناه من عملية فصل واضحة ومذلة بين الرجال والنساء الحاضرين في المهرجان، فالرجال تصدروا الصفوف والميدان والنساء أُلقين في الخلف من وراء فاصل.. فكيف وافقت على المشاركة في هذا المشهد وأنت نصير “الحريات” وحليف المرأة وحقوقها المتساوية؟
لقد سمعت خطابك في المهرجان وأنا أدعم موقفك الرافض للاعتقالات الإدارية والملاحقات السياسية بكل قوتي، وكذلك أوافق على توصيفك لخطورة تفشي ظواهر العنف بيننا وفي قرانا ومدننا، لكنني أتساءل ماذا فعلت لجنة المتابعة العليا، وكثيرون منا يعلمون أن في صفوفها من يصنّع عمليًا فتائل العنف وينتج مولدات الاعتداء على الآخرين؟
أعرف أنك تحمل أحلامًا كبيرة وأعرف أيضًا أنك قد بدأت مسيرة الألف ميل ببعض الخطوات الهامة، لكنني أخشى، بعد مرور عامين من شبه المراوحة التامة، أنك لن تستطيع الخروج من حلقة “المتابعة” ولجانها كما ورثتها، فبدون أحزاب سياسية ناضجة وواعية ومسؤولة وداعمة، وبدون رؤساء مجالس بلدية وقروية منتخبين بدعم أطر سياسية ووطنية، وبدون تأمين حماية للحيزات العامة وتحصينها من تدخل الدين السياسي في كل صغيرة وكبيرة، وبدون التزود بالجرأة على قول اللاءات في وجه كل معتد على “المختلف الآخر” وكل مارق وعميل ومستزلم وحملة الخناجر والعرابيد، لن تستطيع أن تنقلنا إلى ذلك الساحل الذي لعبنا على رماله حين كنا عشاق “محمود وسميح وتوفيق “.
رجائي ألا تعتبر ما قلته هنا، يا رفيقي، مجرد انتقاد متحرش، بل هو في الحقيقة اعتراف مني بأننا أبناء “جيناتنا”، فأنا وأنت سنبقى رفاقًا للأمل ومولعين بدودة القز والحرير، ورغم الخيبة من المعطيات القائمة، ما زلت واثقًا بأن خيارك سيكون خيارنا، وأنك في النهاية حليف الحرية والشمس ومن يشقون في “الحقل والمحجر” وعاشوا رغم أو تحت أعواد المشانق.
وأخيرًا، أتمنى أن تبقى كالغيمة تندف خيرًا وبركة.
بقلم: جواد بولس