النقّاد بين الإفراط في المديح والتفريط بالأمانة
تاريخ النشر: 08/09/17 | 19:40قيّض لي أن أقفَ على هذه المنصّة مرات عدّة، وفي أحداها قلت بتصرّف: إنّ من يريد أن يعرف القيمةَ التي يجترحُها هذا المكان، يجب أن يرحلَ مع الأديب حنّا أبو حنّا في كتابه: “رحلة مع الذاكرة”، لكني لم أفصح حينها. قلت ذلك لأبعثَ رسالتين، الأولى، أن لأهلِ أصحابِ هذا المكان كان فضلٌ كبير على حركتنا الثقافيّة الحديثة في مراحلها المبكّرة، وهذا غُيّب عنّا بفعل فاعل، أمّا الرسالةَ الثانية هي أنّ أسماءَ ثقافيّة كثيرةً غُيّبت هي الأخرى وبفعل فاعل، وما زال التغييب فاعلا مُفعّلا، فمن هنا كبرُ الاجتراح الذي يجترحه هذا المكان والقيّمون عليه.
ولكن، حتّى لا يصيرَ الأمرُ مبتذلا، فالأمسيات هذه يجب أن تبتعد عن أن تكون، لياليَ حداء واستعراضَ عضلات معرفيّة لا تمتُّ إلى المنتج ولا إلى إنتاجه إلا ببقيّة صلة. يجب أن يكون هذا المنبرُ وغيرُه من المنابر “غرفةَ عمليّات” جراحيّة لحركتنا الثقافيّة.
أنا لستُ ناقدا ولا أحسدُ ولا أغبط النقّاد. أنا أقف اليومَ كقارىء، “وأحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، على هذا المكروه!”.
أرى أن البوصلةَ الأهمَّ للإنتاج الشعريّ كان قد وضعها طيّبُ الثرى والذكر محمود درويش حين قال:
قصائدنا بلا لون
بلا طعم… بلا صوت
إذا لم تحمل المصباحَ من بيت إلى بيت
وإن لم يفهم “البسطا” معانيها
فأولى أن نذرّيها
ونخلد نحن للصمت !
أستطيع أن أقول لك يا أنور، أن في مجموعتك هذه “ترانيم على أجنحة الباشق”، سرتَ على هديِ عقاربِ هذه البوصلة، وهذا تُحمدُ عليه، ولي معك عودة.
أمّا الآن، أرى أن مشكلتنا الأساسيّةَ ليست مع المبدعين بقدر ما هي مع النقّاد، ولا أقصد هنا “نقّادَ مع بعد” وحسب، وإنما “نقّادَ ما قبل” ومع هؤلاء “الما قبل” سأسبح. تناولت هذا الموضوع في أكثر من مقال، وقلت في مقال حمل عنوان: (ملاحظات قارىء…”النقاد الأوائل” بين الإفراط والتفريط)، قلت فيه:
“مسؤوليّة المقدّم أو المذيّل، وهو “الناقد الأول” المؤتمن على العمل الذي وُضع بين يديه، لا حدودَ لها تجاه من ائتمنه وتجاه القراء، ومن هنا فالإفراطُ في المديح خطأ يُغتفر وأما التفريطُ في الأمانة فخطيئةٌ لا تُغتفر.”.
وجدتُّني مضطرّا أن أعودَ مؤخرا للموضوع على أثر قراءتي رواية لأحد (أو إحدى) كتّابنا، فكتبت حول الأولى:
أراني اليوم أمام كاتب (أو كاتبة) يشكُر المقدّم، وأمام أديب يقدّم ومرّة أخرى قائلا: “أُعجِبت بمدى سلامة اللغة وقواعدها”، فأين الروايةُ من هذا الكلام؟!
لقد لفت نظري في الرواية الكثرةُ الكثيرة من الأخطاء اللُغويّة والقواعديّة وحتّى الإملائيّة، رحت أمام هذا أسجّلها، وأود أن أشير أني لم أكن أفتش “في السراج والفتيلة” عن الأخطاء، إلا أن ما سجّلت هو ما لفت نظري “على الماشي”، (وسجّلت ما يربو عن ال200) وأنا متأكد لو أن مدقّقا لغويا، وأنا لست كذلك، راجع الروايةَ لوجد العشراتِ الأخرى.
الكاتب، أو الشاعر، ومهما كان ضليعا في اللغة وقواعدها ليس هو بالضرورة معصوما عن الوقوع في أخطاء، واللغة العربيّة صعبةُ ووعرةُ المسالك ولذا نحسن جميعا صنعا إن استعنّا بمدقّقي لغة، وكم بالحري الكتّاب الجُدد. صاحبُ (صاحبة) روايتنا فعل ذلك لا بل وجد نفسَه مدينا بشكر للأديب المقدّم، والأديب قدّم للرواية وقال ما قال فيها: “أُعجِبت بمدى سلامة اللغة وقواعدها”.
وما عزّز ما رُحت إليه أنّي وجدت نفسي مؤخرّا وفي أيام العيد، أقرأ رواية حديثة الصدور، يشكر كاتبُها أربعةً (….)، وأحدُهم قدّمها وآخرُ ذيّلها، والكاتب وقع في خطأ بنيويّ كبير في الرّواية لا يتطلّب جهدا كبيرا لاكتشافه، ولكن دون أن يلتفتَ أحدٌ منهم إلى ذلك!!!
وعَوْدٌ على بدء…
أنور شاعر، لا أقول ذلك لا تزلّفا ولا حداء ولا مجاملة، أقولها كقارىء “من المغضوب عليهم والضالين”، قرأت المجموعة فوجدتُّني أمام شاعر. شاعر يخطو خطى واثقةً في هذا الحقل الشائك الغزير، ولكن العثرات كانت كثيرة:
أولا: الكلام عن الرواية الأولى أعلاه، بجوهره لا بكمّه، ينطبق على مجموعة الشاعر أنور.
ثانيا: ورغم أن الشعراءَ قد “أراحونا- بين أقواس” من الشعر العموديّ وشعر التفعيلة، غير إني أعتقد أن هذا لا يُعفي الشاعرَ ولا بأي حال من الأحول من أن يخوض غمارَها، وأنور فعل، ولكن تعثّر في الكثير من المواضع، إذ وجد نفسه في مواجهة الخليل ابن أحمد وفي بعض القصائد، يحشو كلماتٍ حشوا كثيرا بعيدا عن: “يحق للشاعر ما لا يحٌق لغيره”.
ثالثا: الرّومانسيّة حلوة، وأنا أتساءل: هل هنالك عودةٌ عند شعرائنا الجدد أو كثيرٍ منهم إليها، كنتيجة موضوعيّة افتراضيّة لرداءة أيامنا؟. نحن أبناء قضيّة نشربها ونأكلها يوميّا، فلا يُعقل أن لا تكون قضايانا ملحَ أدبنا. أنور في قصيدته التي أراها تاج المجموعة “على رصيف العتاب” لامس الموضوع، رأيت فيها بلدَه وطنَه الصغير وكنت أستطيع أن أرى فيها الحبيبةَ وكنت أستطيع أن أرى فيها الأرض، وبقليل من “الرتوش” كان يمكن أن نجد فيها الوطنَ الكبير؟
رابعا: إذا لم يحمل الانتاج الأدبيّ رسالة فلن يغطّي عريَه كلُّ علم البيان، الرسالةُ الأدبية هي البدءُ وهي البقاء وهي المنتهى، والرسالة ليست فنّا من أجل الفن… أنور كان يقظا أو لامس هذا حين قال في قصيدته “كؤوس البوح”: “مغزى القصيدة في النهاية مطلبّ…”، لكنه وقف عند القول دون الفعل.
خامسا وأخيرا: نحن معشرُ الأدباء وأمثالُنا نرجسيّون، والفوارق بيننا هي في مدى استفحال النرجسيّة فينا، والنُّقاد أوائلّ كانوا أو أواخرَ، أكثرُ من يُمكن أن يضعوا الحدود لنرجسيّتنا ولكن فقط حينما يضعون هم الحدود لنرجسيّتهم، ولأمور أخرى كثيرة.
أنور أنت، بالنسبة لي كقارىء، شاعر… ولكّني أتمنى عليك أن تأخذ بأمر “المُبكيات” لا بأمر”المُضحكات”.
سعيد نفاع.
الأمين العام لاتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين