جولة مع الخبرة
تاريخ النشر: 21/09/17 | 22:00علّقت الصديقة الحصيفة مها كامل عواودة على أحد منشوراتي ببيت شعر لم أكن قد قرأته، وهو:
إن الأعلاّءَ إن كانوا ذوي رشَد *** بما يعانون من داءٍ أطباء
بحثت عن البيت فإذا هو لأبي العلاء المعري في لزومياته.
يشير البيت إلى أهمية الخبرة، فالمرضى إذا كانوا عقلاء فإنهم بخبرتهم فيما أصابهم من علل يصبحون أطباء، فاسأل مجرب ولا تسأل الحكيم/ الطبيب،
وصدق قوله تعالى: {ولا يُنَـبِّئُكَ مِثْلُ خبير}- فاطر، 14.
يتابع المعري في البيت التالي، فيقول:
وما شفاك من الأشياء تطلبها *** إلا الألبّـاء لو يُلقى الألبّاءُ
فاللبيب هو الذي يشفي ويحقق مطالبنا، ولكن شاعرنا يعرف أن العقلاء قلما يُسمع قولهم.
الخبرة- فطن إليها لقيط الإيادي عندما حذر قومه من هجوم الفرس عليهم، فيقول واصفًا القائد الذي يريد أن يوكَل الأمر إليه:
فقلّدوا أمركمْ لله درُّكمُ *** رحبَ الذراعِ بأمرِ الحرب مضطلِعا
ما زال يحلبُ هذا الدهرَ أشطرَه *** يكون متّبِعًا طورًا ومتَّـبَعا
حتى استمرّت على شزْرٍ مريرتُه *** مستحصِدَ الرأي لا قَحمًا ولا ضَرَعا
رحب الذراع: الواسع، يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخَلق، ولكن على سهولة الأمر عليه. قال الشاعر:
رحيب الذراع بالتي لا تَشينه *** وإن قيلت العوراءُ ضاق بها ذرعا
وكذلك قوله جل وعز: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}-الأنعام، 125.
وقوله: مضطلِعًا إنما هو مفتعِل من الضليع، وهو الشديد، يريد أنه قوي عل أمر الحرب، مستقل بها. اضطلع الرجل بحمله أي قوي عليه.
يحلُب أشطرَ الدهر: خبر الأشياء جميعها، فالأشطر جمع شطر، وهو خِلْف الناقة (أي ضِرعها).
وقوله: يكون متبعًا طورًا ومتبعًا- أي قد اتبع الناس فعلم ما يصلح به أمر الناس، واتُّبع فعلم ما يصلح الرئيس.
وقوله: على شزْر مريرته فهذا مثل، يقال: شزرت الحبل، إذا كررت فتله بعد استحكامه راجعًا عليه. المريرة: الحبل. والضَّرَع: الصغير الضعيف. والقَحْم: آخر سن الشيخ.
(المبرِّد: الكامل في اللغة والأدب، ج1، ص 322- 323. تحقيق حنا الفاخوري).
أما المثل (حلبَ الدهرَ أشطرَه) فقد ورد في كتاب الميداني- (مجمع الأمثال، رقم 1033):
“هذا مستعار من حلب أشطر الناقة، وذلك إذا حلب خِلفين من أخلافها، ثم يحلبها الثانية خِلفين أيضًا. ونصب “أشطره” على البدل، فكأنه قال: حلب أشطر الدهر، والمعنى أنه اختبر الدهر شطري خيره وشره فعرف ما فيه. يضرب فيمن جرب الدهر.”
وفي معنى الخبرة:
ما أدق وصف أوس بن حُجْر في رثاء فُضالة بن كلّـدة من بني أسد:
الألمعيُّ الذي يظنّ بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
إنه حديد القلب واللسان- أي حاد الذكاء، فله بسبب خبرته نظرة صائبة، وكأنه في ظنه قد عاين المشهد وسمع ما دار فيه. فهو يحدس الأمور فلا يُخطئ، وعليه فهو فطن صادق الظن بسبب هذه الخبرة التي مارسها.
الألمعي= يُضرَب للرجل المُصيب بظنونه، وأصله: مَن لَمع إذا أضاء؛ كأنه لمَع له ما أظلمَ على غيرِه.
وقال محمد بن وهيب الحميري (ت. 840 م) واصفًا مثل هذا الألمعي:
بصير بأعقاب الأمور كأنما *** تخاطبه في كل أمر عواقبه
كما يقول الشاعر العراقي كاظم العاملي (ت. 1886):
بصير بأعقاب الأمور كأنها *** وإن بعدت عنه بمرأى ومسمع
فما أجمل هذه الصورة، فالممدوح يستقرئ ما سيأتي، ويعرف العواقب لكل أمر.
وفي هذا المعنى يقول العُجير السَّلولي في حماسة أبي تمام (ج2، ص 366- التبريزي):
من النفر المُدلين في كل حُجّة *** بمستحصِد من جولةِ الرأي محكَمِ
يرى أن الممدوح يدلي بحجته القوية في كل رأي فهو مصيب محكم.
في جولة الرأي أي في تأمله الأمور، أي من الذين لهم إصابة الرأي وجودة الفكر وإحكام الأمر، ولا يتأتى ذلك إلا بعد خبرة وتجربة.
ومن الشعر في هذا المعنى كذلك ما قاله أبو فراس الحمْداني:
لقد زدت بالأيام والناس خبرة *** وجربت حتى أحكمتني التجارب
وفي رواية أخرى (هذبتني التجارب)
ومما نُسب لكثيِّر عَزّة:
وجربت الأمور وجربتني *** وقد بدأت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال علي إني *** بهم لأخو مثاقبة خبير
فلنعمد إلى ذوي التجارب في السياسة والأدب وقضايا المجتمع، لنكتسب من خبرتهم ومعرفتهم، فكثيرًا ما يصدق المثل “أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة”، وبالطبع فهذا ليس قانونًا، لكنه مثل يعمد إلى أن يذكرنا أن (الدهر مدرسة).
ومن جهة أَولى نقول:
“أعطيَ القوسَ باريها” و”أعط الخبز للخباز” وبذلك نؤكد أهمية التجربة والخبرة في كل ميدان وفي كل عمر.
فالمثل الأول ورد في كتاب الميداني (مجمع الأمثال رقم 2445):
“أعطِ القوسَ باريَـها:
أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه:
يا باريَ القوس بريًا لست تحسنُها *** لا تفسدنْها وأعطِ القوسَ باريها”
ب.فاروق مواسي