سرُّ بيتنا القديم
تاريخ النشر: 24/09/17 | 14:46أمس كان آخر أيام بيتنا القديم ..
قرَّر أبي هدمه كي يبني مكانه بيتاً جديدً .. سيقيم فيه أخي , بعد زواجه القريب ..
و أخيراً عرفنا السِّر المدفون فيه, منذ سنوات طوال .
إثنان كانا يعرفان هذا السر .. جدّي والبيت القديم .
تجمع أهل الحارة .. والحارات المجاورة , أثناء عملية الهدم , آملين أن تنكشف لهم بعض من أسراره .
لعبنا , نحن أطفال الحارة , حوله ولم ندخله ..
قال لنا الكبار , ان جِنيّة تسكنه .. ولم يدخله أحد ,منذ أن تركه جدّي , وانتقل ليقيم معنا , بعد ان توفيت جدّتي .. بذل والدي جهداً مضنياً, حتى أقنعناه بتركه .
ولم نراه يدخله بعد ذلك ..
وتأكدنا من وجود الجنيّة في البيت, عندما حاولت جرارات الدولة اقتحامه من أجل هدمه , وفتح شارع للمستوطنة , التي بنوها فوق بلدنا على قمة الجبل .
تقدَّم الجرار الأول من البيت , وعندما أصبح على بعد أمتار منه , تجمَّد مكانه كأنه صخر غشيم , لم يتحرك الى الأمام شبراً واحداً , وكل محاولات سائقه والفنيين ,الذين استدعاهم لمساعدته في تحريكه , باءت بالفشل .
استدعوا جرارات أخرى , فحدث لها ما حدث للتي قبلها ..
كان جدّي يراقبهم, وابتسامة سخرية , ترتسم على شفتيه
وبعد انساحاباتهم المتعددة خائبين , كان جدي دائماً يعلق قائلاً : “هذا بسبب الجَعّارة..! ”
وعندما سألته , من تكون الجعّارة هذه , وماذا يعني بهذا القول, سكت وانسحب الى غرفته , التي لا يخرج منها إلا نادراً.
وعشنا مع جِنيّة البيت في سلام – هي في بيتها لا تخرج منه .. ونحن لا ندخله !
قبل ان تفارقنا جدّتي, حكت لي قصصً كثيرة, عن جدّي في أيام الثورة .
إحداها عندما أنقذ عشرة ثوار, كانوا محاصرين على الجبل .
ركب فرسه , وتناول بارودته , وركب حصانه, وطار الى الجبل المقابل , وبدأ بإطلاق النار باتجاههم , متنقلاً من موقع الى موقع , حتى يظنوا ان الثوار ,استطاعوا التسلل ,الى الجبل المقابل , فركبوا سياراتهم ,واسرعوا باتجاه الجبل ,الذي أطلق منه النار .
وبذلك انقذ الثوار , الذين انسحبوا آمنين .
أما هو فغادر المكان مسرعاً , ودخل بيته, واختبأ في خابية القمح.
فتش العسكر القرية بيتاً بيتاً , فلم يعثروا على أحد من الثوار , فغادروا البلد .
ذات يوم , وكان ذلك في العاشرة من عمري ..
اقتحم صديقي أحمد غرفتي ..واقترب من أذني وهمس :
– زَلَمي ..!
– شو بِدّك ..!؟
– ندخل على بيت جدِّك .!
– مجنون .. ! والجِنيَّة .!؟
– مبين بتأذيش أحد .! بنطل شوي وبنرجع .!
– وينته ..!؟
– في الليل ..!
بعد صلاة العشاء . كنا – أنا وسعيد – على باب البيت القديم.
دخل أمامي , يشق طريقه من بين كتل الظلام ,التي كانت “تكبس ” على المكان , مددت يدي كي أمسك به , كي لا نضيِّع بعضنا , في قاع هذا الظلام المخيف , وعندما مسكت بيده , اجتاحني ارتجافها الشديد , فضاعف أمواج الخوف التي كانت تسري في عظامي , فشعرت أني على شفا الإنهيار .!
– تعال نرجع ! همستُ , وأنا أشدُّ بيده الى الوراء.
– مالك .!؟ خايف ..!؟ قال بصوت مرجوج , وهو يستمر بالسير الى الأمام .
وعندما أعاقت أقدامنا, كتل الحجارة والطين ,المكوَّمة على مصطبة البيت , أضاء سعيد مصباحاً صغيراً كان معه.
ضوء المصباح, رسم على حيطان البيت ,صوراً و أشباحً تصغر وتكبر , تمتد وتتقلَّص مغيِّرة أشكالها , فتحوَّل خوفي الى هلع شديد.
– وَقْفوا .!! وارفعوا إيديكم ..!! فجرَّ صوت هادر ,سكون المكان ..فتحولنا الى كتل متصخِّرة , من الخوف المذبوح .
تسللت عيني الى الأمام ,كي تسرق لمحة , من مكان مصدر الصوت ..
كان هو..
جدّي ..!
كان جدّي واقفاَ بالبالطو الطويل, كأنه جبل أُقتطع من عزرائيل , رافعاً رأسه الكبير الى أعلى , كمثل حوت طار من البحر, شاهراً بندقيته , التي كانت مصوّبةً نحونا.
صنع مع صور الأشباح و الظلال , التي تتشكَّل وتتحرك على حيطان البيت .
فزادت من خوفنا وهلعنا أضعافاً , فشعرت أن , رجلاي لم تعد قادرة على حملي , وأني على شفا الإنهيار .
وعندما ” قَشَعَنا ” ..صرخ جدي :
– شو مْفَوِّتكم لهون ..!!
صرخته هزَّت أركان البيت , وحوَّلتنا الى أصنام متحجرة .
أنزل جدّي البندقية , وغاب عن أعيننا للحظة خلناها الدهر , ورجع بدونها .
فعرفنا انه يخبئها في مكان ما في البيت ..!
فتقدم مني , وأخذني بيده , دون ينطق ولو بكلمة واحدة , وقادني على أضواء مصباح سعيد , لذي كان يتبعنا الى خارج البيت القديم , وأوصلني الى فراشي .
وعرفنا انه يتسلل ليبيت في البيت القديم .. وأدركنا اننا يجب علينا حفظ سرِّه هذا !
ولم ندخله بعد ذلك ..!
ولكن رغبتنا الشديدة , في العثور على البندقية, ظلت تراود أحلامنا ..
وعرفنا أن أبي , يلحُّ في إقناع جدّي بهدم البيت ..ولكن دون جدوى ..كان يقول :
“لن يهدم البيت وأنا حي .! ” .
سنة كاملة , ظلَّت روح جدّي تحمي البيت, وتخيف كل من يحاول التفكير في هدمه .
ولكن بعد انتهائها استطاع والدي , وبعد تردد شديد , أن يتغلَّب على مخاوفه , ويقرَّر هدم البيت القديم , وبناء بيت جديد لأخي ,المقبل على الزواج قريباَ ..
وأخيراً جاء يوم الهدم ..
كانت جميع أعين أهل الحارة , تراقب ماذا سيحدث للجرار, الذي بدأ أسنانه ,تقترب من حيطان البيت ..
ولكن في هذه المرة , استطاع الجرار , اسقاط الحيطان , وتحويلها الى ركام منثور.
وقفتُ – انا وصديقي سعيد – نراقب الموقف, منتظرين ظهور البندقية , التي لا يعرف سرِّها سوانا ..
ولما غادر الجرار المكان , صحت بسعيد : ” دوِّر عليها بين ركام الخابية .!” .
وإذا بسعيد , يرفعها من بين ركامها .. !
أسرعنا هاربين بها من أعين المتواجدين , خرجنا من الحارة الى المقبرة ,وهناك وضعناها تحت الحنفية , حتى نَظِفتْ من التراب ,الذي كان يغطيها .
فتكشَّف لنا السِّر, الذي كان جدي قد نحته عليها :
” الجَعّارة ..! ” ..جَعّارة الروحة ..
بلد جدتي المهجَّرة , قبل ان يتزوجها جدّي, وانتقالها للسكن معه في بيتنا القديم قي بلدنا..والتي روت لي الكثير , عن حياتها فيها , وعن تشتت أهلها, بعد طردهم منها بعد النكبة .
وفي طريق رجوعنا , أخبأنا البندقية , بين حجارة سنسلة كرم زيتوناتنا ..
“ليش بتبكي .!؟” سألني سعيد ,بعد ان رأى سيلان الدموع من عيوني.
” على بيتنا القديم ..!” أجبته, وبركان البكاء المحموم, ينطلق من مكانه المحبوس .
قصة بقلم : يوسف جمّال – عرعرة