خطبة دينية حول عواقب الظلم
تاريخ النشر: 02/10/17 | 3:15عواقب الظلم والظالمين
يقول الله -تعالى-: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ * نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ) [ابراهيم: 42 44)].
العدل من أسماء الله الحسنى، فهو سبحانه الحق والعدل، وبالحق والعدل قامت السموات والأرض، وارتضاه أن تقوم عليه حياة الناس في كل شيء من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، أفرادا وجماعات ومجتمعات وأمماً.
ونقيض الحق والعدل، في كل شيء هو الظلم والباطل، وهو أصل الفساد والدمار: خلق ذميم وذنب جسيم وأذى عظيم، ونزعة شيطانية مقيتة، يفسد الحياة، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات، ويورث العداوات. فلا تستقيم الحياة مع الظلم، ولا يتحقق أمن ولا استقرار ولا ازدهار، ولا سلامة ولا كرامة.
فهو في معناه العام كل مجاوزة للحق وخرق لموازين العدل ووضع الشيء في غير محله، وما ينتج عن ذلك أو يقترن به، من التسلط والاعتداء والعبث بحقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل.
وسواء كان الظلم ماديا أو معنويا، أو بأية طريقة أو وسيلة فهو منكر مذموم؛ لذلك اشتد فيه النهي والوعيد في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تحريما بالتأكيد، وتوعيدا بالتشديد، وبيانا لعواقب الظلم ومصير الظالمين، في الدنيا والآخرة، وهل بعد لعنة الله ما هو أشد وأنكى في حكمهم و مصيرهم: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18].
لذا فإن الله -تعالى- وهو العدل الحكم، لا يرضى الظلم، ولا يحب الظالمين، وقد حرمه على نفسه مع أنه لا يجوز في حقه سبحانه، فقال في حديث قدسي طويل: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا))[رواه مسلم].
والله -تعالى- يأمر العباد بالعدل والإحسان؛ لأنه لهم طريق الخير والسداد والرشاد. والشيطان يغري بالظلم والعدوان، وهو طريق الشر والفساد. والإنسان بينهما، إما أن يكون ربانيا بالتزام الحق والعدل في نفسه ومع الناس، أو يكون شيطانيا بنزعاته العدوانية الظالمة. والشيطان أول ظالم وأكبره على الإطلاق، منذ رفض أمر الله بالسجود لآدم، فكأن ذنبه ظلم جحود وكفر واستكبار. بينما كانت معصية آدم وزوجه ظلم نسيان وخطأ وغواية الشيطان، أعقبه الندم والاستغفار: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23)].
وكان أول ظلم على الأرض بقتل أحد ابني آدم أخاه حسدا وحقدا: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة 30)].
ثم امتد الظلم والبغي في الناس عبر التاريخ وتكاثر وانتشر بكل الأشكال والأحوال، تغذيه الأنانيات والأطماع والأحقاد والصراعات العرقية والمذهبية والطائفية والسياسية، ومختلف الدوافع والنوازع الذاتية والجماعية بتأثير فتنة الدنيا ومتاعها.
وكل ذلك بتحريض وغواية الظالم الأكبر إبليس الذي أقسم فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 8283)].
ومهما تعددت أشكال الظلم ومظاهره في أفعال الناس وأحوالهم، فإنها لا تخرج عن أنواع ثلاثة:
ظلم الإنسان في حق الله -تعالى-، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، وصرف العبادة لغيره -سبحانه-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13)].
ظلم الإنسان لنفسه، باتباع الشهوات وإهمال الواجبات واقتراف المنكرات، وكل مظاهر التمرد على شرع الله وخرق حدوده بالذنوب والمعاصي قولا وعملا: (تلك حدودُ اللهِ فلا تَعتَدوها ومَن يتعدَّ حدودَ الله فأولئك همُ الظالمونَ) [البقرة229)].
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران 135)]. (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة 157)].
ظلم الإنسان لعباد الله ومخلوقاته، ومظاهره وأحواله لا تحصى في أفعال الناس ومعاملاتهم، بكل ما هو إساءة وإذاية، ماديا أو معنويا بالأقوال والأفعال، كما في أكل أموال الناس بالباطل، وظلمهم بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء وغير ذلك: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى: 42)].
وفي كل أحوال الظلم الثلاثة فالإنسان ظالم لنفسه، بما يتحمل من وزر ظلمه، وعواقبه ومغبة مصيره في الدنيا والآخرة، ما لم يتب من ذلك ويصلح ما بينه وبين ربه وما بينه وبين من ظلمهم، برد الحقوق واسترضاء مظلوميه: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس 44)].
إن الإسلام الذي نَزل بشريعة العدل والإنصاف، يُدين الظلم بكل أشكاله وأحواله، ودوافعه وأساليبه، ويؤكد تحريمه وتجريمه، ويحذر من عواقبه الوخيمة: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [الزخرف: 65].
ولا يرضى للمسلم أن يكون ظالما ولا عونا لظالم، ولا أن يركن إلى الذين ظلموا: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود 113)].
فالظالم المُصرّ على ظلمه لا يفلت من العذاب، عاجلا أو آجلا، إذا لم يتب منه توبة نصوحا: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه: 111].
فكم قص القرآن الكريم علينا من مصارع الظالمين، أفرادا أو جماعات أو شعوبا وأمما، ممن أملى الله لهم فلم تنفع معهم المواعظ والآيات والعبر: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج 48)].
وفي الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله لَيُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلِتْه) ثم قرأ: (وكذلك أخذُ ربِّكَ إذا أخذَ القُرَى وهي ظالِمةٌ إنّ أخذَهُ أليمٌ شديدٌ)[البخاري ومسلم].
فانظر إلى مصير قوم نوح وقوم عاد وصالح وثمود وقوم لوط، وفرعون وهامان وقارون وغيرهم، كيف أصابهم الله بالعذاب الشديد في الدنيا قبل الآخرة: (فكلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40)].
ومهما طال بالظالمين الأمد فإن لهم عند الله موعدا حتميا للعذاب: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمهْلَكِهِمْ مَوْعِدًا) [الكهف 59)].
وما أكثر أحوال الظلم ومظاهره السائدة في واقعنا، من أدنى درجاته الى أقصاها في البغي والعدوان، وتطبعت عليه النفوس، وأصبح عند بعض الناس مظهرا للسيادة والشرف، أو طريقا للكسب والامتلاك، أو نزعة لإشباع أهواء النفوس المريضة بالحقد والحسد والضغائن والطمع والجشع. واقع مرير يحتاج إلى إصلاح شامل فاعل، على أساس من العدل والإحسان، والتوعية بمخاطر الظلم الذي تغلغل في حياة الناس والمجتمع.
واذا كان العدل، كل العدل في العمل بشريعة الله والتزام طاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن كل مخالفة أو تمرد أو خرق لحدوده في العقيدة والإيمان والعبادة والعمل والمعاملة، فذلك ظلم لا يرضاه الله -تعالى-، ولا يليق بكرامة الإنسان المسلم، ولا يبرره شيء من العصبيات والانتماءات ولو في نصرة الأخوة، وهذا الذي يقرره حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصحيحا لموازين الجاهلية: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قيل: يا رسول الله، أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟! قال: ((تحجزه أو تمنعه عن ظلمه فإن ذلك نصره))[البخاري].
فالشرك بالله -تعالى- أعظم الظلم، وهو سائد في كثير من أحوال الناس في التعلق بالقبور والأضرحة والسحر والشعوذة، وهم يرجون من المخلوقين ما لا يملكه إلا الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء: 48].
والتقصير في أداء حقوق الله -تعالى-، في ذكره وشكره وحسن عبادته، ظلم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج 77)].
والتسلط على الأبرياء والضعفاء في أنفسهم وأموالهم ظلم وعدوان، بأي طريقة كانت، كالغصب والسرقة والغش والرشوة وغيرها: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
وتسليط اللسان على أعراض الناس بالغيبة والنميمة والسخرية والقذف والتشنيع وغيرها، ظلم للعباد: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) [الحجرات: 11)].
واضاعة الأمانات والمسؤوليات وكل الواجبات ظلم: ((وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ونقض العهود والوعود والمواثيق والقوانين العرفية ظلم: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا).
والظلم حاضر على كل حال في اقتراف الذنوب والمعاصي بالزنا والربا والخمور والقمار وكل ألوان الفجور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90)].
فاتقوا الله -عباد الله-: في أنفسكم واجتنبوا أفعال الظلم، ظاهرة وباطنة، وكل مشاركة فيها من قريب أو من بعيد، فإنما هي عدوان وبغي على أنفسكم، لا تحمد عواقبه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [يونس 23)].
واعلموا: أن الظلم يعظم ويعظم معه الجرم ويشتد فيه غضب الله ووعيده كلما لحق بالمستضعفين، فقد ورد في الحديث القدسي قوله -تعالى-: ((اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري)) [قال الألباني: “ضعيف جدا”].
قال شاعر وأجاد:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
إن عواقب الظلم وخيمة، وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من دعوة المظلوم لأنها مستجابة، لا حجاب بينها وبين الله -تعالى-: ((واتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))[رواه الشيخان].
وفي رواية: ((دعاء المظلوم يرفع فوق الغمام، ويقول الرب -تبارك وتعالى-: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)).
وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: “إياك ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام”.
وكما في التاريخ القديم عبر ومواعظ من مصارع الظالمين؛ ففي حاضرنا عبر من سقوط عروش المتكبرين والمتجبرين الذين استعبدوا شعوبهم، وحاربوا فيهم دين الله -تعالى-، فهل كانوا يحسبون الحساب لعواقب ظلمهم، وهل كان الناس يتصورون ما آلوا إليه من ذل وهوان، بعد التسلط والعدوان؟. إنه عدل الله الذي لا يرضى الظلم ولا يحب الظالمين: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165].
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45].
أما والله إن الظلم لؤم *** وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا *** غداً عند الإله من الملوم
الخطبة الثانية:
يقول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر: 17].
إن العاقل يحسب الحساب ليوم القيامة، ويعلم أن الظلم ظلمات في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فيلزم سبيل الحق والعدل والإحسان في كل أقواله وأفعاله وأحواله مع الناس، حتى لا يضيع منه ثواب أعماله باقتراف المظالم التي يؤدي عنها يوم القيامة بحسناته.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يوصي باجتناب الظلم في المعاملات ويأمر بالمبادرة إلى أداء الحقوق إلى أهلها، حيث قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه))[رواه البخاري].
وفي حديث آخر: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء))[رواه مسلم].
يقول أحد السلف: “الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفره الله لمن مات عليه، وهو الشرك.، وظلم لا يعبأ به الله، وهو الذي بين العبد وربه وليس فيه حقوق العباد، فهو أقرب إلى المغفرة بالتوبة، وظلم لا يتركه الله، وهو ظلم الإنسان للإنسان، ولا بد فيه من رد الحقوق الى أصحابها واستسماح المظلوم”.
وللظلم عواقبه العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، فطوبى لمن ادكر واعتبر وتاب وأصلح، ويا ويل من تبعته مظالمه إلى يوم القيامة فذلك الخسران المبين. وإليكم قصة ذات مغزى وعبرة:
يحكى أن رجلا مقطوع الذراع ينادي بين الناس: من رآني فلا يظلمن أحدا، فلما ألح عليه من سأله، قال: كنت من أعوان الظلمة، رأيت صيادا اصطاد سمكة كبيرة، فأعجبتني، فطلبتها منه، فقال: هي قوت عيالي، فضربته وانتزعتها منه قهرا، وفي الطريق عضت إبهامي، وما لبث بعد أيام أن انتفخ واشتد ألمه، ولما عرضته على الطبيب، قال: إنها الآكلة، ولا بد من بتره.
وما لبث الانتفاخ والألم أن انتقل إلى الكف، فقطعت، ثم إلى الساعد والذراع، فقطعت من الكتف.
فلما ذكرت السبب لبعض الصالحين نصحني بالبحث عاجلا عن الصياد واسرضائه قبل أن يعم الداء الجسد كله.
فطلبته في البلد حتى وجدته، ووقعت على قدميه أقبلها وابكي سائلا عفوه، فرق لحالي وعفا عني.
ولما سألته عما دعا به علي يوم أن ظلمته، قال قلت: ” اللهم إن هذا تقوى على ضعفي بقوته، وأخذ ما رزقتني، فأرني اللهم قدرتك فيه”.
قال الرجل: والله لقد أراك الله قدرته فيّ، وأنا تائب إلى الله -تعالى-.
فأي بيان بعد هذا وأي وعيد، لكي يحسب المسلم العاقل ألف حساب وهو يواجه دواعي الظلم في نفسه، من قبل أن يأتي يوم لا تنفع الظالمين معذرتهم ولا هم يستعتبون، اليوم الذي قال الله -تعالى- فيه: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر: 17].
(هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52].