إشراق وجهك غرّني… توهمت المساء صباحا
تاريخ النشر: 07/10/17 | 5:06عندما قرأ والدي البيتين على مسامعي وأنا يافع كان يظن أن الشعر هو غزل، وما زال ابن عمي (خيري الشاعر) يحفظهما بروايته منه على أنهما غزل.
البيتان هما:
صبّحته عند المساء فقال لي: *** تهزا بقدري أم تريد مُزاحا
فأجبته: إشراق وجهك غرني *** حتى توهمت المساء صباحا
أتساءل اليوم بعد أن تذكرت البيتين:
لمن الشعر؟ ومن الشاعر؟ وما مناسبة القول؟
وأي جمال لهذه المرأة- جمالٍ كان كالنور الساطع حتى تخيل الشاعر المساء صباحًا؟
في كتاب اليوسي (زهر الأكَم في الأمثال والحكم)، ج2، ص 170 وجدت البيتين منسوبين للشاعر ابن عبد المنان الخزرجي الأندلسي، باختلاف قليل:
صبّحته عند المساء فقال لي: *** ماذا الصباح؟ وظن ذاك مزاحا
فأجبته: إشراق وجهك غرني *** حتى توهمت المساء صباحا
يمضي اليوسي ويقول:
“وسبب قوله هذا الشعر أنّه دخل وهو ثمل على السلطان أحمد المريني عشية فصبّحه.
فنظر السلطان إليه نظر منكِر، وقال له: أي وقت هذا؟ وأي معنى للصباح فيه؟
فأفاق من سكره، وأنشد ما مرّ ارتجالا، وهذه بديهة لا بأس بها.”
علق المؤلف معجبًا بحضور بديهته وتخلصه بعد أن وقف الشاعر الثمل موقفًا حرجًا.
في تصفحي لـ (ديوان الخُبز أَرْزي)، ذُكر في الهامش:
” أما صاحب الزهر (يقصد اليوسي) فالظاهر أنه نقل هذه الحكاية من كتاب (درّة الحجال) للمكناسي في ترجمته لأبي العباس أحمد بن يحي بن عبد المنان، وتصرف فيها بأن جعله ثملاً، وغيّر عبارة “ماذا الكلام؟” بـ “ماذا الصباح؟”.
يمضي الشارح، ويقول:
” كما أشار المكناسي في حكاية أخرى عنه أن الصفدي ذكرها لغيره أيضًا، وإن صحّت فهي تضمين لبيت الخبز أرزي.
ولم ترد هذه الحكاية ولا الأبيات في كتاب (نثير الجُمان) لابن الأحمر- معاصر ابن عبد المنان وصاحبه، مع ما أورد من أشعاره وحكاياته”.
إذن يشكك الشارح أن الشعر لابن عبد المنان، ويرى أنه للخبز أرزي.
نعود إلى النص في ديوان الخُبز أَرزي (ت. 939 مـ)، فيظهر لنا أن الشعر موجَّه لأبي حسن الممدوح، ومرة أخرى- ليس الشعر غزلاً.
صبّحته عند المساء فقال لي: *** ماذا الكلام؟ وظن ذاك مزاحا
فازددتُ دهشًا فوق دهشٍ أول *** وعلمت أني قد أتيت جُناحا
أحسِنْ أبا حسنٍ، فحسنك راعني *** حتى توهمت المساء صباحا
لا تعجبنَّ فإن وجهك لو بدا *** في ظلمة لحسبته مصباحا
(الديوان-المقطوعة 26)
أما الأبشيهي في (المستطرف)، ص 543، فلا يذكر اسم القائل ولا المناسبة، فيقتبس الرواية بتغيير طفيف:
“وقال آخر:
صبحته عند المساء فقال لـي *** تهزي بقدري أم تريد مزاحا
فأجبته: إشراق وجهك غرنـي *** حتى توهمت المساء صباحـا
رأينا هنا أن عجز البيت الأول كان مختلفًا، حيث ورد بهذه الصيغة- “تهزي بقدري أو تريد مزاحا”، وانتشر كثيرًا بهذه الصورة رغم الخلل الواضح فيه، وربما كان ذلك من تحريف ناسخ، ومن يدري فربما كان في الأصل “تزري بقدري أم تريد مزاحا”.
كما يُروى بصيغة أخرى وهي:
“أتراك تهزأ أم تريد مزاحا”.
والخبز أرْزي يعيد المعنى غزلاً هذه المرة، وفي مقطوعة أخرى له في ديوانه:
وأحورَ صبَّحتُه في المساءِ *** وإني لمن دهَشٍ مرعش
فقال تُهَزِّئُني في السَّلامِ *** وكاد لما قلتُ يستوحشُ
فقلتُ دهشتُ لما قد رأيتُ *** ومَن ذا يراك ولا يدهشُ؟
* في موقع (واتا) كتب خليل إبراهيم عليوي أن شاعر البيتين هو بكري رجب الحلبي (ت. 1979)، فيقول
“يروى أن الشاعر بكري رجب البابي الحلبي رحمه الله تعالى- وكان شاعراً مبدعًا رقيق الحاشية عذب التعابير لطيف المعشر– مع الشيخ العالم عبد الله سراج الدين بن الشيخ نجيب رحمهما الله تعالى حين دخل على الشيخ في غرفة إدارة الثانوية الشعبانية التي أسسها أبوه في حي “الفرافرة” في حلب القديمة لتخريج الدعاة إلى الله تعالى، ثم عكف الشيخ عبد الله على تطويرها ..
وكان الشاعر بكري رجب البابي الحلبي يعمل فيها مدرسًا للغة العربية وبعض المواد الشرعية الأخرى .. دخل عليه مساء فقال له:
“صبحك الله بالخير”!
فالتفت إليه الشيخ عبد الله سراج الدين، وحدجه بنظرة فيها استغراب وعتاب واستفهام.
فأما العتاب، فلأن الشاعر دائم “النهفات”، وينأى عن الجد في كثير من مواقفه، وطبيعته المرحة تدفعه إلى ذلك.
وأما الاستفهام، فلأن الشاعر ما ألقى تلك الجملة إلا ليردفها بتفسير وتعليل .. هكذا عوّد الأحباب، والشيخ منهم.
وقال الشيخ بهدوء المتمكن: يا شيخ بكري رجب البابي الحلبي- ناداه باسمه كاملاً – أتسخر منا أم تريد مزاحا؟
وقف الشاعر أمامه مبتسمًا متحببًا، وعيناه تغزلان ذكاءً ثم قال:
صبّحته عند المساء فقال لي *** تهزا بقدري أم تروم مزاحا؟
فأجبته: إشراق وجهك غرّني *** حتى توهّمْت المساء صباحا”
لا يخفى أن الحلبي استشهد بالشعر، ولم يؤلفه، فما ورد في كتاب الزهر لليوسي وفي المستطرف وفي ديوان الخبر أرزي ما يرد عليه.
وأخيرًا، ففي كتاب عائض القرني (مجالس الأدب) لا يذكر لنا اسم الشاعر حاضر البديهة، بل يذكر أن الأمير هو المهلبي في بغداد، ولا أدري علام اعتمد.
وللبحث صلة.
ب. فاروق مواسي