تقلب الزمان.. جولة أدبية
تاريخ النشر: 17/10/17 | 12:20كثيرًا ما نُسبت مقولة خطأً لعلي- كرم الله وجهه، وهي:
” معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان لم يأت”.
والفكرة التي فُهمت أن لكل عصر دولة ورجال، فما عُرف أمس وتعارفوا عليه سيكون منكرًا وغريبًا في زمن آخر، وفي جيل آخر.
وجدت القول مثبتًا على أنه لمعاوية في كتاب الأبشيهي (المستَطرَف)، ص 390 وفي مراجع أخرى، حيث جاء القول في معرض تقلب الزمن، وتغير الحال، ومن سره زمن ساءته أزمان.
وقد ورد النص في خطبة لمعاوية في (العقد الفريد، ج4 ص 83)، وأقتبس:
“فاقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شر لكم، وإنَّ معروف زماننا هذا مُنكَر زمان مَضى، ومُنْكَرَ زماننا معروفُ زمان لم يأت، ولو قد أتى، فالرَّتْق خَيْرٌ من الفَتْق، وفي كلّ بلاغ، ولا مُقام على الرزيّة”.
كما نسبت المقولة إلى معاوية في كتاب التوحيدي (البصائر والذخائر، ج4 ص 199)، بينما ينسبها ابن المعتز في كتابه (البديع- الباب الثالث من الكتاب وهو المطابقة) لأبي الدرداء.
يقول المستطرف في سياق الحديث عن تغير الأحوال وتقلب الدهر:
“وكان معاوية رضي الله تعالى عنه يقول معروف زماننا منكر زمان قد مضى ومنكره معروف زمان لم يأت.
وكانت ناقة رسول الله العضباء لا تُسبق فجاء أعرابي فسبقها، فشق ذلك على الصحابة، فقال:
“إن حقًا على الله أن لا يرفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه”.
وحكي عن شيخ من همدان قال:
بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكُلاع الحِمْيري بهدايا فمكثت شهرًا لا أصل إليه، ثم بعد ذلك أشرف أشرافه من كُوّة، فخرّ له من حول القصر سجّدًا.
ثم رأيته من بعد ذلك وقد هاجر إلى حِمْص واشترى بدرهم لحمًا، وسمطه خلف دابته (أي السِّير خلف السرج ويُعلّق به)، وهو القائل هذه الأبيات:
أفِّ للدنيا إذا كانت كذا *** أنا منها في بلاء وأذى
إن صفا عيش امرئ في صحبها *** جرعته ممسيًا كأس الردى
قال يونس بن ميسرة: لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه، ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه ومن قول ذلك:
رب يوم بكيت منه فلما *** صرت في غيره بكيت عليه
ومثله:
وما مر يوم أرتجي فيه راحة *** فأخبره إلا بكيت على أمسي
قال الشاعر:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم *** ولا الدار بالدار التي كنت أعهد
أتذكرون قصة المعتمد بن عباد وما آل إليه، وكيف وصف حالته وحال بناته في العيد، وقد أتيت على ذلك في الجزء الثاني من كتابي (دراسات أدبية- قراءات بحثية، ج2، ص 208).
قال مالك بن دينار: مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن:
ألا يا دار لا يدخلْك حزن *** ولا يغدرْ بصاحبك الزمانُ
فنعم الدار تأوي كل ضيف *** إذا ما ضاق بالضيف المكان
ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب.
لن أحدثكم عن منزل رجل عظيم الشأن في بلدتي- كانت الوفود تأتي إليه بدون انقطاع، حتى ليصدق فيه قول زهير:
قد جعل المبتغون الخير في هرِم *** والسائلون إلى أبوابه طرقا
فانظراليوم إلى هذا المنزل الذي كان أشبه بقصر كيف أضحى حيث يصدق فيه ما قال البحتري في وصف الإيوان:
عكست حظَّه الليالي وبات المشتري فيه وهو كوكب نحس
قال عبد الله بن عروة بن الزبير:
ذهب الذين إذا رأوني مقبلا *** بشّوا إلي ورحّبوا بالمقبل
وبقيت في خلَف كأن حديثهم *** ولغُ الكلاب تهارشت في المنزل
ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** بقي الذين حياتهم لا تنفع
وهذا البيت الأخير يذكرني بقول لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يُعاش في أكنافِهـمْ** وبقيتُ في خَلْفٍ كجلدِ الأجربِ
لبيد يصف تغير الناس والأيام ويذكر أخاه أرْبَد، فيقول ذهب الذين يعاش في خيرهم، وهأنذا أعيش مع بقية من الناس لا فائدة فيهم، وهي كجلد الجمل الأجرب.
ملاحظة لغوية:
قال بعضهم إن (الخلْف) بتسكين اللام تقال لمن هم أبناء السوء، وأما خلَف (بفتح اللام) فهم أبناء الخير، وكثر في ذلك القول، وكان دليلهم الآية الكريمة:
{فخَلَفَ من بعدهم خلْفٌ أَضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهوات..}- مريم، 59.
لكني لم أر تحديدًا قاطعًا يجعل الخلف (بالفتح) لأبناء الخير فقط ممن يأتون من السلف، ففي (لسان العرب)، ثمة شرح طويل حول كلمة (خلف) مفتوحة اللام وكذلك ساكنتها، يقول فيه:
“وَفِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ خَلَفٌ مِمَّنْ مَضَى أَيْ يَقُومُونَ مَقَامَهُم. وَفِي فُلَانٍ خَلَفٌ مِنْ فُلَانٍ إِذَا كَانَ صَالِحًا أَوْ طَالِحًا فَهُوَ خَلَفٌ. وَيُقَالُ : بِئْسَ الْخَلَفُ هُمْ أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ”.
لكن (خلْف) بتسكين اللام وردت أكثر ما وردت للأبناء الذين هم أبناء شر أو سوء.
جعلكم الله خيرَ خـلّف لخير سلف!
ب. فاروق مواسي